ولاية الفقيه

اشارة

سرشناسه : خميني، مصطفي، 1356 - 1309

عنوان و نام پديدآور : ولايه الفقيه، العوائد و الفوائد، دروس الاعلام و نقدها/ تاليف مصطفي الخميني؛ [گردآورنده محمد السجادي]؛ تحقيق موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1418ق. = 1376.

مشخصات ظاهري : 84، 60، ص 154

شابك : 9000ريال

يادداشت : عربي

يادداشت : عنوان روي جلد: ثلاث رسائل: ولايه الفقيه، العوائد و الفوائد، دروس الاعلام و نقدها.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

عنوان روي جلد : ثلاث رسائل: ولايه الفقيه، العوائد و الفوائد، دروس الاعلام و نقدها.

عنوان ديگر : ثلاث رسائل: ولايه الفقيه

موضوع : ولايت فقيه

موضوع : اصول فقه شيعه -- قرن 14

موضوع : اسلام -- علوم نقلي

موضوع : علوم اسلامي

شناسه افزوده : سجادي، محمد، گردآورنده

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)

رده بندي كنگره : BP223/8 /خ 85و8 1376

رده بندي ديويي : 297/45

شماره كتابشناسي ملي : م 80-4778

تمهيد

حول ما للرسل من تشكيل الحكومات الدنيويّة

[خاتم] الأنبياء و الرسل إذا كانت وظيفته الإلهية، غير محصورة بسور الشريعة و الهداية إلىٰ دار الآخرة، و كان يجمع بين [الروحية و المادّية] و لا يكون حسب بعض الأخبار متمحّضاً في أمر الآخرة و لا في أمر الدنيا، كبعض الأسلاف من الرسل و الأنبياء (عليهم السّلام)، بل هو الحدّ الوسط و الميزان المقتصد، فلا عيسوية و لا موسوية، بل هي الحقيقة المحمّدية البيضاء (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فكيف يمكن اختصاصه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بهداية الناس من الجهالة و الضلالة إلىٰ الآخرة و شؤونها.

بتوهّم أنّ الناس و الغرائز الموجودة فيهم، كافية لإصلاح حال البشر، و لا يحتاج الإنسان بما هو مدني بالطبع إلىٰ رسول متكفّل بالقوانين السياسية؟!

ولاية

الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 4

فهذه الشبهة واهية، و لا يمكن أن يعتقد أحد من المسلمين بأنّ الإسلام دين كافل لأُمّهات الأُمور الراجعة إلىٰ سعادة البشر؛ من حيث تبعات الأعمال من العقوبات [و المثوبات و حسب]، فالأنبياء أطباء النفوس، و السلاطين أُمراء و حكّام علىٰ الخلق، و كافلون لأُمور الناس، و عليهم نظم البلاد و العباد. بل الإسلام دين متكفّل بجميع المصالح و المفاسد علىٰ حدّ الاعتدال.

و لا نبالي أن نقول: إنّ الإسلام يضادّ الدنيا، و دين يوجّه الناس إلىٰ الآخرة توجيهاً أشدّ من التوجيه إلىٰ الدنيا، لعدم احتياج البشر الشيطاني المادّي بالطبع و الطبيعة إلىٰ توجيهات مادّية، و يكفي للتوجّهات الدنيويّة، الغرائزُ و القوىٰ المودوعة في جِبِلّتهم و سجيّتهم، فالآخرة أحوج إلىٰ المنبّهات و الموجّهات قطعاً و طبعاً.

الرسول الأعظم كان متكفّلًا لجيمع الأُمور برمّتها

و لكن ليس هذا يرجع إلىٰ أنّه غير قابل لأن يتصدّى العائلة البشرية في أمر دنياهم و ما يحتاجون إليه لتشكيل الحكومة و النظام العسكري و البلدي، أو غير مأمورين بذلك؛ حتّى يُتوهّم أنّ اللازم من ذلك ما يتوقّف عليه الهداية إلىٰ دار الآخرة.

و بعبارة اخرىٰ: أنّ الزعامة و تشكيل الحكومة كان لبسط الإسلام و تعريفه إلىٰ المجتمع في ذلك اليوم، و إصغاء الآخرين إلىٰ يوم

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 5

القيامة؛ حتّى لا يزول بزوال النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فهو (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قد تكفّل بهذه الأُمور السياسية لحفظ الديانة من الاندراس، و لو كان الإسلام يمشي في البلاد بموافقة ملوك الأمصار، لما كان (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ينظّم الحكومة و يُشكّل الزعامة و السلطنة، فإنّ هذا التوهّم باطل غير سديد

جدّاً؛ لما نجد في القوانين الإسلامية ما يفي بسعادة البشر في جميع شؤونه و في كافّة أُموره؛ ضرورة أنّ الإسلام له قوانين في شتّىٰ المراحل و المنازل، و في مختلف الجهات المرتبطة بالأفراد و الآحاد و بالمجتمعات و الجماعات، فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا و قد أحصاها، فهو دين الدنيا و الآخرة.

و ليس كلمة الدين كما يتبادر منه بدواً ما كان يوجّه البشر إلىٰ الآخرة محضاً، بل الدين هي السياسة العظمى الكافلة لجميع أنحاء السعادات الجزئية و الكلّية، الدنيوية و الأُخروية، و لذلك نجد أنّ الإسلام جامع شتات المسائل الروحية و المادّية و الفردية و الاجتماعية؛ بخلاف سائر القوانين و الملل، فإنّ قوانينهم الأساسية قاصرة عن الأحكام الفردية و الروحية، بل هي قواصر حتّى في أُمور دنياهم، و التفصيل يطلب من مواقف أُخر.

حول أنّ التوصية و جعل القيّم من شعب الرسالة العامّة

و لَعَمْري إنّه إذا كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) خاتم الرسل؛ و لا يأتي من بعده نبيّ و لا رسول، و كان شغل الرسول الأعظم الختمي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) هذا الذي

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 6

أسمعناك، فهل يمكن أن نلتزم بأن يكون دينه بلا وصيّ و لا قيّم في مختلف الأمصار و الأعصار؛ لا في عصر خاصّ دون عصر؟! أ فنحتاج إلىٰ الدليل اللفظي علىٰ لزوم تصدّيه لما يلزم من إهماله الهرج و المرج؛ بالأمر و بإصدار الفرمان بتشكيل إحدىٰ الحكومات الممكنة من المشهورات في هذا العصر، و هي الحكومة الجمهورية أو المشروطة أو الاستبدادية أو غير ذلك من أنحائها؟! أ فلا يكون عليه فراراً عن الفساد في البلاد علىٰ العباد تعيين الوظيفة بنحو الكلّي للمسلمين و زعمائهم

و أكابرهم؟! فهل يوجد عاقل في العالم لا يقول بالتصدّي لمثل ذلك، بعد ما يجد قول اللّٰه تعالىٰ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1»؟! أ وَ ترضى أن تقول: إنّ اللّٰه تعالىٰ تقضي رحمته الواسعة و عفوه الكريم و لطفه العميم ببعث الرسل و إنزال الكتب، و لا تقضي بأزيد من ذلك؛ و هو أن يأمر الرسول بتعيين الوظيفة للمسلمين في طول الدهر و مدىٰ الأيّام، و لا سيّما بعد كونه خاتم الرسل و الأنبياء، و بعده ينقطع الوحي و التنزيل، أم العقل السليم و الذهن المستقيم لا يصطفي ذلك، و لا يحتمله في حقّه تعالىٰ، فإنّ ذلك من شُعب تلك الرسالة العظيمة، و من أغصان هذه الشجرة الطيّبة.

أ وَ ترضى أن يتكفّل بأمر الإسلام، الذي أُهريق لبنائه دماء الأفاضل،

______________________________

(1) الزمر (39): 30.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 7

و هُتك لأجله أعراض الأماجد في جميع الأزمان، لا الزمن الخاصّ المحدود بالحدود المتناهية و لا سيّما إذا تناهت إلىٰ خمسين و مائتي عام علىٰ المذهب الحقّ أم يجب علىٰ اللّٰه تعالىٰ، كما يجب عليه إرسال الرسل و إنزال الكتب، أن يتكفّل بعائلة البشر ديناً و دنيا بعد ما ينقطع الوحي إلىٰ الأبد. و هذا معنىٰ ما اشتهر عنّا: أنّ العلماء في هذه الأُمّة كأنبياء بني إسرائيل «1»؛ لأنّهم أنبياء عن الرسول الأعظم بعد وصول الكتاب الإلهي إليهم، و المتون النبوية لديهم، و إلى هذه البارقة الإلهية يشير ما في الأحاديث: أنّ الفقهاء أُمناء الرسل «2»، و أنّهم حصون الإسلام «3» .. و هكذا.

فَلَعمْري إنّ هذه المسألة لا ينبغي أن تُعدّ من النظريات، بعد الغور فيما هو السبب لبعثة الأنبياء و الرسل، ما هو سرّ لطفه

تعالىٰ بالرعيّة، و لأجل وضوح المسألة لا يوجد في الكتاب و السُّنّة ما يفي حسب المصطلحات الأخيرة بإثبات هذه الحكومة الكلّية لغير الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أو من يحذو حذوه؛ لما يشكل تارة في سنده، و أُخرى في دلالته علىٰ سبيل منع الخُلُوّ.

فتحصّل حتّى الآن: أنّ لزوم ذلك علىٰ الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) من الواضح و البديهي، و إن كان المسلمون مختلفين في ذلك الأمر من بعد الرسول

______________________________

(1) عوالي اللآلي 4: 77/ 67، بحار الأنوار 2: 22/ 67.

(2) الكافي 1: 46/ 5، عوالي اللآلي 4: 59/ 2، 77/ 65.

(3) الكافي 1: 38/ 3.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 8

الأعظم (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و لكنّهم متّفقون في حاجة الإسلام و المسلمين إلىٰ الحكومة، و لكنّهم اعتقدوا أنّ الحكومة جمهورية مستبدّة باستبداد القانون، لا الفرد و الشخص.

و المذهب المنصور يقول: بأنّ الرسول الأعظم أظهر كمال رسالته بتعيين الأمير العزيز عليّ بن أبي طالب عليه آلاف التحيّة و الصلوات و السلام و هو ليس من خصائصه، بل ذلك حكم اللّٰه تعالىٰ، و إظهار لمن نصبه اللّٰه تعالىٰ، و هكذا الأمر في سائر المواقف، فإنّه مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ «1».

المقدّمة الأُولىٰ: حول أنّ الأنبياء و الرسل كافلون لأمر الدين و الدنيا

إذا عرفت و أحطت بما تلوناه عليك، و علمت أنّ الخاتميّة تقتضي التصدّي لنصب القيِّم و الرئيس و السائس بين العباد؛ لصون البلاد عن الفساد، و إلّا فيحتاج البشر إلىٰ رسول آخر، يتكفّل أمر معاشهم و معادهم فيما يحتاجون إليه حسب شرائط الحياة في الأزمنة الآتية، كما نجد اختلاف الأُمم في ذلك من حيث رقيّ الشؤون الدنيويّة و المظاهر المادّية،

فلا نحتاج بعد ذلك إلىٰ إقامة البراهين العقلية و النقلية حول المسألة.

و لكن لمّا كان الناس و الفقهاء مختلفي الفهم و الإدراك، فكم من

______________________________

(1) النجم (53): 3 و 4.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 9

فقيه جامع لعلوم القرآن، و لا يُدرك حقيقة الإسلام، و كم من رجل لا يعلم اجتهاداً مسألة من المسائل الشرعية، و لكن اللّٰه فتح قلبه لإدراك لزوم مثل تلك الحكومة في الأديان، و إلّا فيصبح الديانة مغفولة، و تصير من الأُمور التشريفاتية، كما نجد ذلك في بلاط روحانيي المسيح و في كليسا و غيره، و ما هذا إلّا لإيجاد الخلل و الفصل بين الدين و الدنيا، و لكن كما أنّ لفظتي الدين و الدنيا متقاربتان جدّاً، كذلك هما في هذه النشأة، قريبان متشابكان متداخلان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

و هذا لا ينافي ضدّية الإسلام مع مظاهر الدنيا؛ لما رأينا أنّ رئيس هذه الحكومة، و هو الرسول الأعظم و الأمير المعظّم، كانا يرأسان و يتصدّيان لأمر السياسة في البلاد و الحكومة علىٰ العباد، و لكنّهما مُعرضان عن الدنيا أشدّ الإعراض، و كانا في غاية الانزجار و نهاية التنفّر عن شؤونها و الإقبال إليها، فإذا كان رئيس الحكومة علىٰ مثالهما، يتمكّن من أن يتقدّم في أمر المملكة و بسطها بمدّة قصيرة و عُدّة يسيرة، و إنّما كانوا في صدر الإسلام بسطوا الديانة في كافّة أقطار العالم؛ حتّى وصلت صولتهم إلىٰ مضيق جبل طارق، فأصبح الإسلام في القارّات الثلاث المعروفة في ذلك العصر: القارّة الأُروبية و الأفريقيّة و آسيا، فهل حدث هذا إلّا لما كان رئيس الإسلام و الحكومة يعيش علىٰ الإقتار و التقتير، و لا يعيش كعيش المُسرِفين و المُترَفين و

المُبذِّرين و كأهل الدنيا و الشهوات، و لا يمضي عليه ساعة إلّا و هو فيها يهتمّ بأُمور المسلمين و الإسلام، فإذا

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 10

كانت و جهة النظر إلىٰ هؤلاء الأعاظم، فلا يتمكّن البشر عن التخطّي عن هذه السيرة و الطريقة.

فبالجملة: أصل لزوم هذه الحكومة، و احتياج الإنسان المطبوع علىٰ التمدّن إلىٰ التشكيلات بعرضها العريض حسب الاحتياجات، ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، و لا أجد مخالفاً في ذلك الأصل بحسب الكبرى الكلّية، إلّا من يرىٰ أنّ أساس البعثة و الأنبياء هداية البشر إلىٰ الآخرة، و لكن أمر الدنيا محوّل إلىٰ أهلها و سلاطينها، و لا يصحّ لأحد من الأنبياء التدخّل في هذه النشأة.

و لو رأينا نبيّاً يصنع هكذا، فإمّا نتّهمه أو نحمل فعله علىٰ الصحّة؛ بدعوىٰ احتياج الهداية و بسطها في الجملة إليها، فإذا بلغ إلىٰ آذان الناس تلك الرسالة و النبوّة، فلا حاجة بعد ذلك إليها.

و أنت خبير بما فيها، و لا بأس بالإشارة الإجمالية إلىٰ بعض هذه الأدلّة العقلية و اللفظية، و في طيّ هذه الأدلّة يظهر صغرىٰ هذه الكبرى المسلَّمة، و أنّ من يصحّ له التصدّي لا بدّ و أن يكون كذا و كذا، فانتظر.

المقدّمة الثانية: المشتملة علىٰ الأصل الآخر في هذه المسألة

نشير إليها إجمالًا؛ لاحتياجها كما سبق إلىٰ رسالة مستقلّة، و هي خارجة عمّا نحن بصدده هنا؛ من إثبات ولاية الفقيه علىٰ الأيتام و الأطفال، و لكن لا بأس بالإيماء إليه، فنقول

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 11

لا شبهة في اختلاف المعروفات عقلًا و شرعاً، و تفاوت الخيرات كتاباً و سُنّة، فمن المعروفات و الأُمور الخيّرة ما يكون معروفاً من شخص خاصّ أو في حالة خاصّة، فيكون واجباً في

تلك الأحوال و علىٰ تلك الآحاد و الأفراد، و ذلك مثل كثير من الواجبات الفردية، مثلًا لبس الإبريسم و الذهب محرّم، و ترك معروف و لازم، و لكنّه علىٰ المكلّف، و يجوز ذلك للأطفال و الصغار، و لا يجب علىٰ الأولياء خلعهما عنهم؛ لعدم معروفية تركه، و عدم بلوغ ذلك إلىٰ الخيرات المطلقة، و إلى ما لا بدّ من تركه من أيّ شخص كان، أو في أيّة حالة كانت، و إذا ارتقىٰ النظر إلىٰ الدرجة الوسطىٰ من المعروفات و الخيرات، نجد أنّ ذلك واجب و لا بدّ من إيجاده أو إعدامه، كما إذا أراد الصغير أن يشرب الخمر، أو يزني، و غير ذلك إذا أمكن له ذلك و هكذا ممّا يُشابهه، فإنّه و إن لا يجب عليه شي ء و لا يحرم، و لكن علىٰ الأولياء المنع عنه؛ لما عُلم من الشرع مبغوضية أصل وجوده، لا من شخص خاصّ أو في حالة خاصّة.

و إذا كان شي ء واجب الوجود في نظر الشرع، أو واجب الترك، و لا يتمكّن الشرع من تكليف كلّ أحد به، كالأمثلة المزبورة، فعليه تكليف الآخرين بالمحافظة و المواظبة علىٰ الخير المزبور و المعروف المذكور؛ حتّى ينسدّ باب العدم عليه، و يصل المولى إلىٰ مرامه و مقصده بتلك الطريقة قهراً و طبعاً.

و ربّما يكون الخير و المعروف واجباً و لازم الوجود، و لا يلاحظ

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 12

قياساً إليه شي ء يزاحم ذلك، بل جميع المزاحمات [تُبعَد] و تُطرَد، و يكون وجوده في اللزوم، بالغاً إلىٰ حدّ يتوصّل المولى في ذلك إلىٰ كلّ ما أمكن، و ذلك مثل النظم و المنع عن الهرج و المرج، و الممانعة عن اختلال نظام الأعراض

و الأموال و النفوس، فإنّه بصراحة العقل مطلوب لكلّ أحد كان ذا عقل سليم و فهم مستقيم بالضرورة القطعية، و لذلك تجد جميع الحكومات في جميع الأعصار و الأمصار متصدّين لإبراز ذلك و التباهي به، و هذا هو أساس [التقدّمات في الوصول إلى المرام و المقصود في العالم الفعلي و الحالي، كما هو الظاهر البارز.

و هذا الأصل و هو حفظ سياسة المدن و نظْم البلاد و دفع الفساد عن عوائل البشر مورد [اهتمام] الأنبياء و المرسلين و سائر الحكومات، و لا يمكن أن يتمكّن أحد في مرامه، إلّا بإظهاره أنّه يريد تنفيذ هذا الأصل، و يشتهي بناء هذا المقصد، و كانوا من السلف إلى الخلف يتّهم كلٌّ الآخر بأنّه غير لائق لمثله. و إنّ الناس لا يعيشون في مأمن صحيح، و لا يستريحون راحة طيّبة، فوجود النَّظم البلدي و المملكتي كوجود النَّظْم الفَلَكي و الآفاقي متلازمان، فكما أنّ الباري عزّ اسمه لمصالح نظام الجمع و الكياني، لا يلاحظ القضايا الشخصيّة و الفردية، و تفنىٰ مصالح الأفراد حذاء مصالح الجماعة، فيُنزِّل من السماء ماءً، فيُنبت من الأرض نباتاً حسناً و إن يتضرّر به العقار و البناء، فإنّه في قِبال ذلك ملحق بالأعدام، كذلك في النظام الجزئي البلدي و المملكتي و الأرضي

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 13

و الاعتباري، يُراعىٰ ذلك الأصل، و يلاحظ مصالح المجتمع و تفنىٰ المصالح الفرديّة للعباد، فأمره التكويني و التشريعي علىٰ مقياس واحد، و هذا هو المشاهد بالبرهان و الوجدان، و ليس من القياس أو الاستئناس بالاستحسان و الاستذواق، كما لا يخفىٰ علىٰ ذي مُسكة، فضلًا عن العاقل.

و ثمرة هذا الأصل: أنّ الواجبات الشرعيّة النظامية في الإسلام، المجعولة لسياسة البلدان،

و المحافظة علىٰ الناس أموالًا و أعراضاً، ممّا لا بدّ من إجرائها، و هي بحسب ما يظهر واجبة الإجراء من غير مراعاة حال خاصّ أو شخص. نعم لمّا كان تفويض أمرها إلىٰ كلّ أحد مستلزماً لما يُفرّ منه، و هو الاختلال في النظم، فعليه مراعاة الأصل المزبور في تعيين المُنفِّذ و المُجري، فيحوّل الأمر إلىٰ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و الوليّ (عليه السّلام) أو غيرهما إلىٰ منتهىٰ عمر الدنيا و الدين، فمن ذلك الأصل يعلم لزوم وجود من يتكفّل أمر السياسة في المدن و يتصدّى لمحافظة البلدان و النظام عن الفساد و الاغتشاش، و حيث إنّ الذي خلق السماوات و الأرض هو العالم العادل، فيبعث العالم العادل إلىٰ العباد كالرسل، و ينزّل الكتب المشتملة علىٰ الأحكام العادلة في الرعية، و يعيّن عليهم تعيين العالم العادل في الرعيّة؛ خاصّاً كالأولياء (عليهم السّلام)، و عامّاً كالفقهاء؛ حسب ما يأتي تفصيله و إثباته بالأدلّة اللفظية.

فلو قام هؤلاء العدول و الفقهاء علىٰ المعروف المزبور اللازم

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 14

وجوده؛ حفظاً للحدود و الثغور و النفوس و الدماء و الأعراض و الأموال فهو، و إلّا فلا يكون المعروف متروكاً، و عند ذلك تصل النوبة إلىٰ ما أُريد أن أقول: و لا يصل إليه فهم الآخرين و إنّي اذاكره لعلّ اللّٰه يحدث بعد ذلك أمراً.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 15

الدليل العقلي للمسألة

حول أنّ النظام التشريعيّ و التكوينيّ بمثابة واحدة

و هو أنّ تخلّف الإرادة التكوينيّة عن التشريعية؛ بتسلّط الجائرين المحافظين في الجملة علىٰ الرعيّة و الناس، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور؛ ضرورة أنّ النظام الكياني و الآفاقي، ليس وحده واجباً، بل النظام في جميع المراحل الكلّية و الجزئية لازم و

واجب، فإن تمكّنت الإرادة التشريعيّة من بعث الفقهاء العدول مثلًا إلىٰ تشكيل النظام الصحيح الذي في ظلّه و تحت ظلاله تُحفظ النواميس البشرية فهو، و إلّا فلا بدّ من انبعاث السلاطين الآخرين، فإنّ الحكّام قوام العدل في الجملة، و لعلّ إليه يشير ما روي عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في كتب الخاصّة و العامّة

السلطان وليّ من .. «1»

، هكذا

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 2: 592، الحدائق الناضرة 23: 239، رياض المسائل 2: 81، سنن أبي داود 1: 634/ 2083، سنن الترمذي 2: 280/ 1108، سنن ابن ماجة 1: 605/ 1879 1880.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 16

في «العوائد» «1».

و لكن غير خفيّ أنّ ذلك لا يورث معذورية الفقهاء العدول عن إحداث تلك الحكومة الإسلاميّة الجامعة؛ لأنّهم علىٰ الواجب و المعروف المذكور [أقدر] إلىٰ تنفيذه أتمّ و أثبت، فهم الحرّيون بذلك.

و ثمرة هذا الأصل أيضاً صحّة المراجعة علىٰ نحو الترتّب إلىٰ هؤلاء الفسّاق و الطواغيت؛ إذا استلزم عدم الرجوع اختلال النظام و إيجاد الفساد. و غير خفيّ أنّ ذلك لا يستلزم معذورية الجائرين في التصدّي، فالفقيه القاصر في تشكيل مثل تلك الحكومة غير معذور إذا تمكّن، و الجائر المتصدّي أيضاً غير معذور.

و لكن التخلّف المزبور واجب، و لا يستلزم عذر القاصر و المقصّر؛ لما تحرّر منّا في الكتب العقلية: من كيفيّة الجمع بين الإرادتين التشريعية و التكوينية، و بين الإرادتين الإلهية الأزلية و الفاعلية الحادثة المباشرة.

و ممّا يترتّب علىٰ هذا الأصل اندفاع شبهة و عويصة كنّا نوردها علىٰ الأساطين: و هم في أمثالها غير متوغّلين و لا واردين.

حول عويصة في مسألة جعل الولاية العامّة عقلًا

و هي أنّ الإرادة التشريعية القانونية يمكن أن تترشّح مع التخلّف في الجملة،

و لكن كيف يُعقل ترشُّحها مع التخلّف المطلق؟

______________________________

(1) عوائد الأيّام: 534.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 17

أي مثلًا: إذا أراد اللّٰه تعالىٰ بالإرادة التشريعية بعث العباد نحو الصلاة و ترك شرب الخمر مثلًا و كان الناس من أوّل الخلقة إلىٰ آخر الزمن، يتركون الصلاة و يشربون الخمر، فإن قلنا: بأنّ ما يصنعه العباد خارج عن حكومته تعالىٰ، كان هذا التشريع أيضاً غير ممكن؛ لأنّه لا يترشّح منه الإرادة الجدّية مع كونه عالماً بذلك؛ لأنّه من قبيل تكليف الحجر بعد العلم بعدم الانبعاث نحو المبعوث إليه.

و إن قلنا: بأنّ إرادة العباد ظلّ إرادته فالأمر أشدّ إشكالًا و أصعب جدّاً، فكيف يمكن تشريع هذا القانون الكلّي؟

و الجواب: أنّ الإرادة التشريعية الباعثة لعباده الصالحين إلىٰ تشكيل الحكومة، سبقت الإرادة التكوينيّة، فكان بين الإرادتين ترتُّب، و هو أنّه تعالىٰ يرىٰ وجوب وجود النَّظْم في العائلة البشرية، و يرى كمال ذلك بتصدّي الفقهاء العدول مثلًا فيأمرهم بذلك، و إذا كان يرىٰ تخلّفهم عن ذلك اختياراً مع القدرة عليه، يريد أن يتصدّى الآخرون لهذا الشأن و الشغل.

و لَعمري إنّ الشبهة عويصة، و لا تنحلّ بمثله، فلتتدبر لعلّ اللّٰه يهديك و يهدينا.

و للمسألة مقام آخر؛ لاحتياجها إلىٰ طور آخر من البحث خارج عن وضع الكتاب. و اللّٰه هو المستعان.

و الذي يمكن أن يقال: هو أنّ ما أُشير إليه: من امتناع ترشّح الإرادة

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 18

و تحقّقها إذا علم المريد عدم انبعاث العموم، يختصّ بالإرادة التشريعية التكليفية، لا الوضعية؛ فإنّها أخفّ مئونة، ففيما نحن فيه يدور البحث حول الولاية العامّة و السلطنة الكلّية التي من الأُمور الاعتبارية، فيمكن ذلك لعدم الحاجة فيه إلىٰ الانبعاث.

و أنت خبير بأنّ

اعتبار الأحكام الوضعية يتقوّم بالأثر المطلوب منه، و هو تنفيذها و إجراؤها، فإذا علمنا أنّه يتخلّف دائماً عن التنفيذ، فكيف يُعقل تحقّق إرادة جعلها؟! فالعويصة باقية بعدُ.

لنا أن نقول كما تحرّر منّا في الأُصول «1» في مواقف كثيرة إنّ عدم ترشّح الإرادة من قِبَل المولى علىٰ وجهين:

أحدهما: أن يكون مستنداً إلىٰ عدم المقتضي، فهو لا يستتبع التكليف العقلي، و لا الثواب و العقاب.

ثانيهما: أن يكون مستنداً إلىٰ وجود المانع و فقد الشرط القائم بالطرف، و هو عصيان الناس و كفرهم و عدم انبعاثهم و أمثال ذلك، فإنّ ذلك لا يمنع عن ثبوت الإرادة و الطلب اللازم مراعاته، المُورِث للتكليف عقلًا و للعقاب و الثواب، فإنّ الاطّلاع علىٰ غرض المولى و مطلوبه يوجب التبعية، فإذا كان بمقتضىٰ الدليل اللُّبّي أمر الخلافة مُفوَّضاً إلىٰ طائفة، و تبيّن أنّ ذلك مطلوب المولى لجماعة، فعليهم القيام بهذا المطلوب، و علىٰ الآخرين القيام بمقدّماته؛ لأنّه مطلوب له تعالىٰ، و معروف وجب

______________________________

(1) تحريرات في الأُصول 2: 30 34.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 19

وجوده بين الناس و إن كان المكلّف بالمباشرة الفقيه، و لكن علىٰ الرعيّة ترتيب الأُمور علىٰ وجه يتمكّن هو من التصدّي لذلك؛ لما به يحصل ما هو مورد الغرض و المقصود. فافهم و اغتنم.

و قد خرجنا عن طور الكتاب، فليعذرني إخواني إن شاء اللّٰه.

إذا تبيّن هاتان المقدّمتان فلْنَشرعْ بجهات البحث في هذه المسألة:

الجهة الأُولىٰ: حول الدليل اللفظي للمسألة

اشارة

و هو علىٰ طوائف نذكر مهمّاتها:

تنبيه:

قد عرفت في ابتداء مسألة ولاية الأب و الجدّ «1»: أنّ الأصل عدم ثبوت الولاية لأحد علىٰ الآخر، و عدم نفوذ تصرّفات أحد في سلطان الآخرين. قد خرجنا عنه حسب البناءات العقلائية المُمضاة في الطائفة الأُولىٰ و حسب الأدلّة العقليّة في الطائفة الثانية.

و حيث تحتاج تلك العقليات إلىٰ التأييد من ناحية النقليات، فلا بدّ من الإشارة إليها مع رعاية الاختصار. و قبل الورود فيها لا بأس بالإشارة إلىٰ أمر:

و هو أنّ هذه الولاية الكلّية التي أردنا إثباتها للحاكم الإسلامي و الفقيه الجامع للشرائط غير الولاية الكلّية الإلهية التي تحرّرت لرسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و للأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) و لفاطمة المعصومة

______________________________

(1) ممّا يؤسف له فقدان هذه المباحث من كتاب البيع.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 20

الزهراء عليها سلام اللّٰه تعالىٰ فإنّها طور آخر من الولاية، ربّما يرجع إلىٰ ما لا اذُن سمعت و لا عين رأت و لا خطر بقلب بشر، فلا ينبغي الخلط بين الأُمور التكوينية و الاعتبارية التشريعية.

الطائفة الأُولىٰ: الآيات الكثيرة الشريفة

منها: قوله تعالىٰ:

أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1»، و لمكان تصدّرها بقوله يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يكون الخطاب شاملًا للمؤمنين في عصر الغيبة، و لأنّه صلوات اللّٰه عليه غائب لا يمكن إطاعته، يتعيّن أن يكون مصداق اولي الأمر شخصاً آخر، و القدر المتيقّن منه هو الفقيه الجامع، فإذا تصدّى الفقيه لأمر لا بدّ من أن يكون نافذاً؛ قضاء لحقّ وجوب طاعته.

و غير خفيّ: أنّ ما ورد من حصر [اولي الأمر] بالأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) «2» فهو محمول في مقام الإجراء، لا التشريع؛ أي مع وجودهم لا ينبغي لأحد آخر أن يتصدّى لإجراء الأُمور و تنفيذ الأحكام،

و أمّا مع فقدهم فيؤخذ بعموم الكتاب.

اللّهمّ إلّا أن يُقال: لو سلّمنا جميع المقدّمات فلا يثبت موضوع الإطاعة بهذه الآية، فإنّ الحكم لا يُعقل أن يتصدّى لحدود موضوعه، فإنّ الآية

______________________________

(1) النساء (4): 59.

(2) الكافي 1: 276/ 1.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 21

دلّت علىٰ وجوب الإطاعة، و أمّا أنّ الفقيه هل يجوز له أن يأمر بكذا و كذا؛ حتّى يحصل موضوع الآية بالنسبة إلىٰ المؤمنين، فهو يحتاج إلى الدليل. نعم إذا ثبت أنّ للفقيه أن يأمر بكذا، فعلى الأُمّة الإسلامية بل على الناس مثلًا عدم عصيانه.

نعم يمكن الدعوىٰ لقاعدة الملازمة المزبورة في أوّل «كتاب البيع» «1» ليصحّ العقد المشكوك صحّته بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2»، فكما أنّ هناك يكشف عمومُ الحكم عن صحّة البيع شرعاً، كذلك للفقيه أن يفهم من عموم وجوب الإطاعة صحّةَ الأمر و جوازَ النهي و نفوذَ التصدّي للأُمور في حقّ الآخرين.

و توهّم: أنّ اولي الأمر تمثّل الطغاة و الفسقة و السلاطين الجائرين، و لا يمكن الأخذ بعمومه، فيكون الكتاب من هذه الجهة مبهماً، في غير محلّه؛ لأنّ الضرورة قاضية بأنّهم لا يصلحون لذلك، فكيف يمكن إيجاب إطاعة الفاسق الفاجر علىٰ المؤمن الصالح؟! اللّهمّ إلّا أن يقال: هذا في حدّ نفسه قبيح، و لكنّه بالقياس إلىٰ حفظ النظام و العدل في المجتمع حسن، فيكون الأمر مع وجود الفقيه المتصدّي مُفوَّضاً إليه، ثمّ بعد ذلك إلىٰ الفُسّاق، كما قيل و يأتي.

و منها: قوله تعالىٰ في سورة المائدة:

إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ

______________________________

(1) تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الجهة الثانية، المبحث الأوّل من مباحث المعاطاة.

(2) المائدة (5): 1.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 22

،

فانظر إلىٰ ما في ذيل هذه الآية من الآيات الأُخر وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْغٰالِبُونَ. يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1».

و لمكان وقوعها في سورة المائدة المصدّرة بقوله يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يختصّ الخطاب بطائفة الموجودين، و لأجل أنّ المخاطَبين هم المؤمنون، و الوليّ في الآية أيضاً يكون اللّٰه و رسوله و المؤمنين كافّة، فلا بدّ من الأخذ بأنّ المؤمنين في الآية طائفة خاصّة، و إلّا يلزم ولاية كلّ أحد علىٰ كلّ أحد، و تلك الطائفة لا بدّ و أن تكون الأئمة المعصومين، أو من يُشابههم في الطريقة المنطبق عليه مفهوم الآية و مفادها، و هم الفقهاء العدول أو العدول، و الفقهاء القدر المتيقّن منها.

و أمّا حمل الولاية علىٰ المحبّة فهو خارج عن طريقة الإنصاف، كحمل كلمة «أولىٰ» في حجّة الوداع علىٰ الولاء و المحبّة، و لا سيّما بعد تذييلها بقوله تعالىٰ فَإِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْغٰالِبُونَ فإنّ منه يُعلم أنّ الآية في مقام تشكيل الحزب، و جعل رئيس الحزب، و من يقود أفراد الحزب، و في مقام ذكر خاصّية الحزب و الغلبة و التفوّق.

______________________________

(1) المائدة (5): 55 57.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 23

و توهّم: أنّها في مقام ردع الناس عن أهل الكتاب و الكفّار، فلا يشمل المقصود، كما يظهر من ذيل الآية الكريمة، في محلّه، إلّا أنّه يفيد الأمر الآخر، و هو أنّ من لا يكون وارداً في صدر الآية، يُعَدّ من الكفّار في ذيلها، فتدبّر جيّداً.

و منها: قوله تعالىٰ في سورة المائدة:

لَوْ لٰا يَنْهٰاهُمُ

الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ «1» و لمكان كونها في مقام تعيير الربّاني و الحبر و العلماء في الأُمم، يُعلم أنّ وظيفة العلماء و الفقهاء من كلّ الأُمم ذلك، و هذا ممّا لا يمكن إلّا بتشكيل الحكومة، و كون الاختيارات الكلّية بيد الفقيه.

و بعبارة اخرىٰ: قضيّة ما تقرّر في محلّه: أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من الواجبات الفرديّة كالصلاة و الصوم، و لكنّها كفائية كصلاة الميّت.

و لكن الذي ينعقد لي قوّته: أنّها من الواجبات السياسية و يكون وظيفة الحكومة أوّلًا، و لا بدّ من تشكيل الوزراء للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما هو الآن موجود في بعض البلاد المنتسبة إلىٰ الإسلام.

و هذا هو وظيفة الربّانيين و الأحبار، و لا معنىٰ لذلك إلّا بعد ذاك؛ لعدم إمكان التصدّي للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالنسبة إلىٰ الجائرين و السلاطين الكُفّار و الفُسّاق، إلّا مع وجود المُعدّات

______________________________

(1) المائدة (5): 63.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 24

و المناسبات التي لا تنجرّ إلىٰ الاضحوكة و الاستهزاء، فإنّ الداني لا يتمكّن من أمر العالي، و لا يكون ذلك عند الأعلام أمراً، بل النهي و الأمر لا يتحقّقان إلّا مع السيطرة و الحكومة و الاستعلاء أو العُلُوّ، كما قيل و قلنا في محلّه «1».

بل في قوله تعالىٰ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ نوع شهادة علىٰ أنّ طرف النهي، لا يكون في الآية الأشخاص المتعارفين، و هكذا يشهد لذلك بعض الآيات الأُخر المتقدّمة عليها، فراجع و تأمّل.

و منها: قوله تعالىٰ في سورة النساء:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ

يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً «2».

فانظر إلىٰ الآيات السابقة علىٰ هذه الآية:

إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا «3».

فإذا أحطت خُبْراً بما مضى في ذيل الآية الاولىٰ من عموم الحكم

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 83، تحريرات في الأُصول 2: 11 و ما بعدها.

(2) النساء (4): 60.

(3) النساء (4): 58 و 59.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 25

بالنسبة إلى اولي الأمر، تكون هذه الآيات ظاهرة في أنّ المنازعة و التحاكم إلىٰ الطاغوت يكون في الجهات المختلفة المتصدّي لها الولاة و القضاة، و لا يختصّ بالثانية حتّى يكون أُولو الأمر مرجعاً للقضاء، دون سائر الأُمور المتنازع فيها.

و توهّم: أنّ ولاية اولي الأمر غير معلومة؛ لعدم تكراره في ذيل الآية الثانية، غير مفيد بعد النصّ، بل الآية الأُولىٰ مخصوصة بالحكّام بين الناس، و قضيّة عمومه عدم اختصاصها بعصر دون عصر، فيكون وظيفة كلّ حاكم الحكم بالعدل، فمنه يعلم نفوذ حكمه إذا كان بالعدل، و القدر المتيقّن من بين النافذين هم الفقهاء العدول.

و غير خفي: أنّه يمكن الشبهة في دلالة كلّ واحدة من الآيات؛ إلّا أنّها لمكان احتفافها بتلك القرينة الخارجية اللُّبّية يتمّ بها المطلوب.

الطائفة الثانية: المآثير المستدلّ بها علىٰ المسألة

اشارة

و الدالّة علىٰ أنّ العلماء ورثة الأنبياء:

«الكافي» في باب صفة العلم و فضله: محمد بن يحيىٰ، عن أحمد ابن محمد بن عيسىٰ، عن محمد بن خالد، عن

أبي البَخْترِي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إنّ العلماء ورثة الأنبياء، و ذلك أنّ الأنبياء لم يُورِّثوا درهماً و لا ديناراً، و إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشي ء منها فقد أخذ

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 26

حظاً وافراً «1»

الحديث.

و علىٰ إنّهم الأُمناء: ففي الباب المزبور عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عنه (عليه السّلام)، قال

العلماء أُمناء، و الأتقياء حصون، و الأوصياء سادة «2».

و علىٰ أنّهم المنار: كما في الباب المزبور في رواية أُخرى

العلماء مَنار «3»

بالسند السابق ظاهراً.

و علىٰ أنّهم أُمناء الرسُل: فيه عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عنه (عليه السّلام)، قال: قال رسول (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

الفقهاء أُمناء الرسُل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول اللّٰه و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم علىٰ دينكم «4».

و علىٰ أنّ الرئاسة لا تصلح إلّا للعلماء الصالحين: في «الكافي» الباب المذكور عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسىٰ، عن حريز عن ربعي بن عبد اللّٰه، عمّن حدّثه، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

من طلب العلم ليُباهي به العلماء، أو يُماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس، فليتبوّأ مقعده من النار؛ إنّ الرئاسة لا

______________________________

(1) الكافي 1: 32/ 2.

(2) الكافي 1: 33/ 5.

(3) مذكورة في ذيل الحديث السابق.

(4) الكافي 1: 46/ 5.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 27

تصلح إلّا لأهلها «1».

و الدالّة علىٰ أنّهم حصون الإسلام: ففي رواية علي بن أبي حمزة البطائني، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام)، و فيها تعليل بقوله

لأنّ المؤمنين الفقهاء

حصون الإسلام، كحصن سور المدينة لها «2».

و علىٰ أنّهم خليفة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): ففي «العيون» قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الشاه الفقيه المروزي ب «مرو الرود»، قال: حدّثنا أبو بكر بن محمد عبد اللّٰه النيشابوري، قال: حدّثنا أبو القاسم عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر بن سليمان الطائي، قال: حدّثنا أبي عام (260)، قال: حدّثنا علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) عام (194).

و أيضاً حدّثنا أبو منصور أحمد بن إبراهيم بن البكر الخوري بنيشابور، قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن هارون بن محمد، الخوري، قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن زياد الفقيه الخوري، قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّٰه المروي الشيباني، عن الرضا (عليه السّلام).

و أيضا حدّثني أبو عبد اللّٰه الحسين بن محمد الأُشناني الرازي العدل ببلخ، قال: حدّثنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني، عن داود بن سُليمان الفرّاء، عن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام)، قال: حدّثني أبي، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «11».

______________________________

(1) الكافي 1: 47/ 6.

(2) الكافي 1: 38/ 3.

(11) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 24/ 4.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 28

ثمّ أورد الأحاديث الكثيرة البالغة إلىٰ قريب من مائتين، و في كلٍّ منها يقول: بهذا الإسناد .. إلىٰ أن قال: و بهذا الإسناد، و قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

اللّهمّ ارحم خُلفائي ثلاث مرّات. قيل له: و مَن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي، و يروون حديثي أحاديثي و سُنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي «1».

و في «الفقيه» قال: قال

أمير المؤمنين: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

اللّهمّ ارحم خُلفائي. قيل: يا رسول اللّٰه .. إلىٰ أن قال-: يروون حديثي و سُنّتي «2».

و في «معاني الأخبار» عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي، عن اليعقوبي، عن عيسى بن عبد اللّٰه العلوي، عن أبيه، عن جدّه، عن علي (عليه السّلام) «3».

و في «المجالس» عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن علي، عن عيسىٰ بن عبد اللّٰه، عن أبيه، عن آبائه، عنه (عليه السّلام) «4» مثله.

و الدالّة علىٰ أنّ الفقهاء و القضاة بالعدل هم أوصياء النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 37/ 94، وسائل الشيعة 27: 92، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 53.

(2) الفقيه 4: 302/ 95.

(3) معاني الأخبار: 374/ 1.

(4) الأمالي، الصدوق: 152/ 4.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 29

و هذه كثيرة مذكورة في أبواب صفات القاضي في «الوسائل» باب 3، و فيها: أنّه قال أمير المؤمنين لشُريح

يا شُريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ «1»

، و لو كان قابلًا للتخصيص لكان شُريح أن يقول: أو فقيه، فيعلم منه أنّ الفقيه القاضي وصيّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و الوصيّ مُفوَّض إليه الأمر، فليتدبّر.

و الدالّة علىٰ أنّ الفقهاء و علماء الأُمّة كأنبياء بني إسرائيل «2»: و في «الفقه الرضوي»

منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة أنبياء بني إسرائيل، فما كان لموسىٰ و هو منهم فهو للفقيه «3»

، بعد عدم خصوصيّة الإشارة المزبورة فيه مثلًا.

و الدالّة علىٰ أنّ الحكومة للنبيّ

أو وصيّ نبيّ، و بانضمام ما سبق تثبت الحكومة للفقيه؛ لأنّه وصيّ: في الباب المزبور عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل «4».

و الدالّة علىٰ أنّ مجاري الأُمور بيد العلماء باللّٰه «5»: و قد اختار جمع

______________________________

(1) الكافي 7: 406/ 2، الفقيه 3: 4/ 8، تهذيب الأحكام 6: 217/ 509، وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 2.

(2) عوالي اللآلي 4: 77/ 67.

(3) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السّلام): 338، بحار الأنوار 75: 346/ 4.

(4) الكافي 7: 406/ 21، الفقيه 3: 4/ 7، تهذيب الأحكام 6: 217/ 511، وسائل الشيعة 27: 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 3، الحديث 3.

(5) تحف العقول: 238.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 30

من الأفاضل صحّة كتاب «تحف العقول» «1»، و لكنّه عندنا غير ثابت جدّاً، و لكن هذه الرواية المشتملة علىٰ المسائل الراقية الموافقة لأفكار الراشدين من علماء الإسلام، و يُستبعد أن يكون فقيه في ذلك العصر، يتمكّن من تأسيس هذا البرنامج السياسي المشتمل علىٰ شتّىٰ الجهات تكون قريبة جدّاً في الصدور عن أهل بيت الوحي و سيّد الشهداء عليه الصلاة و السلام و قد ذكرها «الوافي» بتمامها في كتاب الأمر بالمعروف و مورد النظر فيها هذه الجملة: «و ذلك أنّ مجاري الأُمور و الأحكام علىٰ أيدي العلماء باللّٰه، الامناء علىٰ حلاله و حرامه» «2» الرواية.

و الدالّة علىٰ أنّ العلماء حكّام: ففي المروي عن «كنز الفوائد» للكراجكي عن مولانا الصادق (عليه السّلام) أنّه قال

الملوك حكّام علىٰ الناس، و العلماء حكّام علىٰ الملوك «3».

و في «الغرر»

العلماء حكّام علىٰ الناس «4».

و

علىٰ أنّهم مأمورون بتشكيل السلطنة: لما روي عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) في كتب العامّة و الخاصّة

السلطان وليّ من لا وليّ له «5».

فلا بدّ من

______________________________

(1) وسائل الشيعة 30: 156، (الخاتمة)، بحار الأنوار 1: 29، تأسيس الشيعة: 413، و لاحظ مصباح الفقاهة 1: 5.

(2) الوافي 15: 177 179.

(3) كنز الفوائد 2: 33، مستدرك الوسائل 17: 316، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 17.

(4) غرر الحكم: 47/ 205.

(5) تذكرة الفقهاء 2: 277/ السطر 1، مستند الشيعة 2: 284/ السطر 28، رياض المسائل 2: 81/ السطر 12، سنن أبي داود 1: 434/ 2083، كنز العمّال 16: 313/ 44671.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 31

وجود السلطان العادل، و إلّا فالسلطان الجائر ليس بوليّ.

و غير ذلك مما يطّلع عليه المتتبّع.

فإن كان في ذلك و تلك اللُّبّيات غِنى و كفاية فهو، و إلّا فاستمع لما يرد عليك من الروايات الأُخر المستدلّ بها في الكتب، و إليك نُبذة منها:

الاولىٰ: ما رواه «الكافي» و «التهذيب»

عن صفوان بن يحيىٰ، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَينٍ أو ميراث، فتحاكما إلىٰ السلطان أو إلىٰ القضاة، أ يحلّ ذلك؟ فقال (عليه السّلام)

من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلىٰ الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سُحتاً و إن كان حقّه ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّٰه أن يُكفر به.

قلت: كيف يصنعان؟ قال: انظروا إلىٰ من كان منكم قد روىٰ حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فلْيرضَوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم

بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنّما بحكم اللّٰه استخفّ، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علىٰ اللّٰه، و هو علىٰ حدّ الشرك باللّٰه عزّ و جلّ «1».

فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا، فرضينا أن يكونا الناظريْنِ في حقّهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال (عليه السّلام)

الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث

______________________________

(1) الكافي 7: 412/ 5، تهذيب الأحكام 6: 218/ 514.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 32

و أورعهما، و لا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر ..

إلىٰ آخر الرواية.

مع اختلاف نسخة «التهذيب» «1» و «الكافي» «2» في بعض الجمل مثل جملة

في حقّ أو باطل

، و هكذا بعض الجمل الأُخر، و لكن لا يضرّ بالمعنى المعلوم منها.

و الرواية بحسب السند في «التهذيب» غير ثابت اعتبارها، لما فيه محمد بن الحسن بن شمون الغالي الواقف الضعيف علىٰ ما قالوا فيه «3». و ما في «الكافي» غير بعيد اعتباره، فإنّ عمر بن حنظلة و إن لم يُوثَّق في الأُصول الخمسة، إلّا أنّ الشهيد الثاني وثّقه «4»، و العمدة رواية الأعيان كزرارة و أمثاله عنه، و هو عندنا دليل و شاهد علىٰ الوثاقة الكافية في هذا الباب.

و ربّما تُشكل الرواية مضموناً: بأنّ الظاهر منه ممنوعية الرجوع إلىٰ الطواغيت مطلقاً، مع أنّه فيما يتوقّف عليه معاش البشر و راحة الفكر، و فيما يستلزم الإخلال بالنظام، غير ممكن الالتزام به، و هو خلاف ما ثبت عنه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إنّي بُعثتُ علىٰ الشريعة السهلة السمحة «5»

، و خلاف

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 6: 302/ 845.

(2) الكافي 6: 412/ 5.

(3) رجال النجاشي: 335/ 899، رجال الطوسي: 436، مجمع

الرجال 5: 186 187، معجم رجال الحديث 15: 220.

(4) الرعاية في علم الدراية: 131.

(5) الكافي 5: 494، بحار الأنوار 32: 264/ 3.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 33

اللُّبّيات المشار إليها سابقاً: من أنّ النظام واجب لا يزاحمه غيره.

فبالجملة: الأخبار المشتملة علىٰ ترغيب الشرع في المقاومة السلبية في قبال الحكومة الجائرة، مقبولة إذا كان هذا التقادم تحت راية الحاكم الشرعي و النظام العقلائي؛ حتّى يورث فشل السلطة و سقوط الحكومة، كما قد اتّفق كثيراً.

و أمّا إذا كان التقادم انفراديّاً و الاعتزال عن الجائرين لعنهم اللّٰه تعالىٰ شخصيّاً، فهو مضافاً إلىٰ عدم استلزامه لما هو المقصود، ربّما يؤدّي إلىٰ الإخلال بالنظام المستتبع للهرج و المرج، بل ربّما يؤدّي إلىٰ مَيْل آحاد البشر إلىٰ الإلحاد، فإنّه لا بدّ علىٰ كلّ ديانة حقّة من مراعاة حقوق البشر في هذه النشأة؛ حتّى لا يذهب الناس إلىٰ الباطل، و لا ينزجرون عن الإسلام و المسلمين.

و أمّا دلالتها علىٰ ولاية الفقيه بالمعنى المقصود، و هو نفوذ تصرّفاته عند عدم الأولياء الخاصّة، كالآباء و الأجداد و الأوصياء في مطلق الأُمور، أو دلالتها علىٰ ولاية الفقيه تحت عنوان جواز تصدّيه للحكومة الإسلامية، و تشكيل الحكومات الجزئية و الكلّية، فهو عندي غير واضح.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إذا فرضنا أنّ تكليف الأُمّة هي المراجعة في الاختلافات التي مرجعها القضاة، و في الاختلافات التي مرجعها الحكّام إلىٰ الفقهاء العدول، كما هو الظاهر من الرواية فإنّها كالنصّ في أنّ ما

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 34

هو يتصدّى له السلطان أو القاضي، يتصدّى له الفقيه، و لكنّه بنحو الحَكَم الشخصي من قِبَل المتخاصمين، لا بنحو الحاكم الكلّي المفوَّض إليه الأُمور، و فرضنا أنّ في بلدة كذا

يرجعون إليهم في كلّ يوم آلاف الأنفار، و فرضنا أنّ قبول ذلك واجب عليهم، فلا يُعقل إدارة هذه المراجعات تحت النظام، إلّا بتشكيل الحكومة، فإنّه عند ذلك تجب ذلك؛ لتوقّف أداء الوظيفة عليه بالضرورة.

الثانية: مشهورة أبي سَلَمة

الملقّب بأبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام)

إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلىٰ أهل الجور، و لكن انظروا إلىٰ رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه «1».

و اختصاص جواز المراجعة و نفوذ حكمه بالمرافعات بعيد جدّاً، بل هو مجعول لفصل الخصومة حتّى في غير المرافعات التي مرجعها القضاة، فلو اختلفا في بعض الأُمور الأُخر؛ كأن يُقرّ المديون للدائن، و لكنّه يؤخّر مماطلًا في الأداء، فإذا قَبِلا المحاكمة إلىٰ رجل فقيه، فحكم- حسب بعض المصالح بجواز التأخير إلىٰ مدّة، فإنّه نافذ حكمه، و لا يجوز التخطّي عنه.

و توهّم ضعف السند في غير محلّه، بل السند حسب ما رواه في

______________________________

(1) الكافي 7: 412/ 4، الفقيه 3: 2/ 1، تهذيب الأحكام 6: 219/ 516، وسائل الشيعة 27: 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 5.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 35

«الوسائل» في الباب الأوّل من أبواب صفات القاضي عن «الفقيه» قويّ جدّاً اعتباره، فإنّه يروى بسنده عن أحمد بن عائذ عنه، و سنده إليه معتبر عند المحقّقين «2»، و ابن عائذ ثقة «3»، و ابن مكرم ثقة عندنا، و تضعيف الشيخ في «الفهرست» «4» إيّاه، لا يقاوم شهادة النجاشي «5» و سائر الشواهد الأُخر، فراجع و تدبّر.

و أمّا دلالته علىٰ ما هو المقصود الأعلى في هذا المقام، و هو السلطنة الإلهية للفقيه الجامع

للشرائط الشرعية، علىٰ جميع الأعراض و النفوس و الأموال البشرية، في مواقف المصالح الإسلامية، فهو بعيد عنه إلّا بالتقريب المحرّر، فتأمّل.

ثمّ في رواية أُخرى له ورد هكذا

اجعلوا بينكم رجلًا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضياً «6».

الثالثة: ما رواه الصدوق في «العلل»

عن عبد الواحد محمد عبدوس النيسابوري العطّار، قال: حدّثني أبو الحسن علي بن محمّد ابن قُتيبة النيسابوري، قال: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان النيسابوري، عن أبي

______________________________

(2) رجال العلّامة الحلّي: 280، جامع الرواة 2: 530، مجمع الرجال 7: 224، معجم رجال الحديث 2: 129/ 607.

(3) رجال النجاشي: 98/ 246.

(4) الفهرست: 79.

(5) رجال النجاشي: 188/ 501.

(6) تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 36

الحسن الرضا (عليه السّلام) في حديث طويل قال فيه: «فلِمَ وجب عليهم معرفة الرسل و الإقرار بهم و الإذعان لهم بالطاعة؟ .. إلىٰ أن قال-: فلِمَ جَعل اولي الأمر و أمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة منها: أنّ الخلق لمّا وُقفوا علىٰ حدّ محدود، و أُمروا أن لا يتعدّوا تلك الحدود؛ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيها أميناً يأخذ بالوقف ..

إلىٰ أن قال: و منها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيِّم و رئيس؛ لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حِكمة الحكيم أن يترك الخلق؛ لما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به، فيقاتلون به عدوّهم، و يقسّمون به فيئهم، و يُقيمون به جمعيتهم

و جماعتهم، و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيِّماً أميناً حافظاً مستودَعاً، لدرست الملّة و ذهب الدين، و غُيّرت السنن و الأحكام، و لزاد فيه المبتدعون، و نقص منه الملحدون و شبّهوا ذلك علىٰ المسلمين؛ إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتّت حالاتهم، فلو لم يجعل قيِّماً حافظاً بما جاء به الرسول الأعظم، لفسدوا علىٰ نحو ما بيّنّاه، و غيّرت الشرائع و السُّنن و الأحكام و الإيمان، و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين «1».

و الإشكال في سندها علىٰ ما سلكناه في الرجال مندفع: بأنّ

______________________________

(1) علل الشرائع: 251 254.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 37

«عبد الواحد» يكفي لوثاقته و صحّة الاعتماد عليه ترضّي الصدوق (رحمه اللّٰه) عليه مع تصريحه: بأنّ رواياته مورد الاعتماد، و أنّها صحيحة «1»، مع أنّ العلّامة (قدّس سرّه) صحّح رواياته. قال العلّامة في «التحرير»: روىٰ ابن بابويه في حديث صحيح عن الرضا (عليه السّلام)، و الصدوق رواه عنه «2». و قال في «المدارك»: إنّ «عبد الواحد بن عبدوس» و إن لم يوثّق صريحاً، لكنّه من مشايخ الصدوق المعتبرين، الذين أُخذ عنهم الحديث، فلا يبعد الاعتماد علىٰ روايته «3». انتهىٰ.

و قال في الخاتمة: و كفى به مصحّحاً، مع ما عُلم من مداقّته في السند، و تبعه جماعة «4». انتهىٰ.

و يظهر من رواية الشيخ في «التهذيب» عن ابن فضّال، عن محمد بن عبدوس، أنّ بيته بيت العلم «5»، و ليتأمّل.

و هنا بعض الشواهد الأُخر الدالّة بمجموعها علىٰ أنّه مورد الاعتماد و الوثوق جدّاً.

و بأنّ عليّ بن محمّد بن قُتيبة المعبّر عنه بالقُتيبي من مشايخ الكشّي، و عليه

اعتمد في رجاله، كما في النجاشي، قال: و هو أبو الحسن

______________________________

(1) علل الشرائع: 251 254، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 127، ذيل الحديث 2.

(2) تحرير الأحكام 2: 110/ السطر 13.

(3) مدارك الأحكام 6: 84.

(4) مستدرك الوسائل 3: 622/ السطر 6، (الخاتمة).

(5) تهذيب الأحكام 9: 195/ 785، و لاحظ مستدرك الوسائل 3: 622/ السطر 7، (الخاتمة).

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 38

صاحب فضل بن شاذان و راوية كُتُبه «1».

و في لم: «تلميذ الفضل بن شاذان نيشابوري فاضل» «2»، و يروي عنه أيضاً شيخ القمّيين أحمد بن إدريس و أبو محمّد الحسن بن حمزة العلوي الطبري المرعشي، الذي قالوا في ترجمته: كان من أجلّاء هذه الطائفة و فقهائها، و كان فاضلًا أديباً عارفاً فقيهاً زاهداً ورعاً كثير المحاسن ديِّناً «3»، يروى عنه شيوخ أصحابنا، كالمفيد و ابن الغضائري و التلْعَكْبُري و أحمد بن عبدوس، و يروي هو كتب الفضل بن شاذان بتوسّط علي بن محمّد بن قتيبة. و قيل: و من هنا ذكره العلّامة في القسم الأوّل «4».

و قال في ترجمة يونس بن عبد الرحمن: روىٰ الكشّي حديثاً صحيحاً عن علي بن محمد القتيبي، قال: حدّثني الفضل بن شاذان، قال: حدّثني عبد العزيز بن المهتدي، و كان خير قمّي رأيته .. إلىٰ آخره. و في حديث صحيح عن عليّ بن محمّد القتيبي، عن الفضل بن شاذان، عن محمد ابن الحسن الواسطي .. إلىٰ آخره «5».

قال في الخاتمة: و حيث وُصف الحديث بالصحّة فلا بدّ من كون رجال سنده ثقات و قد ذكره صاحب «الحاوي» في قسم الثقات، و هذا من

______________________________

(1) رجال النجاشي: 259/ 678.

(2) رجال الطوسي، باب من لم يروِ عنهم (عليهم السّلام):

478.

(3) رجال النجاشي: 64/ 150، رجال الطوسي: 495، رجال العلّامة الحلّي: 39.

(4) مستدرك الوسائل 3: 622/ السطر 28، (الخاتمة).

(5) رجال العلّامة الحلّي: 184 185.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 39

الحقّ الذي لا مجال للتأمّل فيه «1».

و قال في موضع آخر حول حال الفضل: و لمّا كان الكتاب المزبور- «العلل» كثير الحاجة في الفروع، فلا بأس بذكر بعض الشواهد علىٰ صحّة الخبر المنقول عنه «2». انتهىٰ.

ثمّ شرع في ذكرها، فلو أمكن المناقشة في جُلّ ذلك، و لكن من الكلّ يحصل ما هو الكافي في هذه المقامات، و إلّا لانسدّ باب العلمي بالضرورة، فلا تخلط.

و أمّا دلالتها: فهي عند المنصف الخبير من الواضحات الباهرات؛ ضرورة أنّ الأُمّة تحتاج إلىٰ القيومة و الرياسة في الأدوار المختلفة و التحوّلات الجزئية و الكلّية، و هذه الحاجة باقية ببقاء احتياجهم إلىٰ النظام السياسي؛ حتّى لا يلزم ما لا يجوز عند كافّة العقول، و هو الاختلال و الهرج و المرج.

و بديهة العقل حاكمة: بأنّ الرضا (عليه السّلام) لا يكون في مقام إفادة الاحتياج إلىٰ عصر الغيبة، و لا يريد إثبات أنّ الإمام الغائب عجّل اللّٰه تعالىٰ فرجه الشريف هو الرئيس القيِّم مع كونه (عليه السّلام) بعيداً عن الأُمّة، فينحصر بالوجه الآخر، و هو تكفّل الآخرين زعامة الأُمّة الإسلامية، و القدر المتيقّن منه هو الفقيه العادل البصير الخبير، الجامع بين

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3: 622/ السطر 31، (الخاتمة).

(2) مستدرك الوسائل 3: 644/ السطر 6، (الخاتمة).

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 40

شتات الأُمور الدينية و الدنيوية، العاقل الرشيد، و سيظهر وجه هذه القيود إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

ثمّ إنّ في كثير من خطب «نهج البلاغة» ما يؤيّد مرامنا، و يسلك سبيلنا، فنهتدي به،

و لا بأس بالإشارة إلىٰ بعضٍ منها:

اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لِنَرِدَ المعالِمَ من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، و تُقام المعطَّلة من حدودك.

اللّهمّ إنّي أوّل من أناب و سمع و أجاب، لم يسبقني إلّا رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بالصلاة، و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نَهمَتُه، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الخائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، و يقف بينها دون المقاطع، و لا المعطّل للسنة فيُهلك الأُمّة .. «1».

أ فتقنع بأن تقول: هذه العبائر تختصّ بالحكومة الموقّتة الإسلامية خمس سنوات، أو بالحكومة المغصوبة خمسين و مائتي سنة، أم هذه العبائر ترمز و تشعر بمقاصد الإسلام و آمال زعمائه الأبدية.

تذنيب:

ربّما يمكن الاستدلال بالكتاب للزوم تشكيل الحكومة الحافظة للحدود و الثغور، و الدافعة للأعداء و المهاجمين، و هو قوله

______________________________

(1) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 189، الخطبة 131.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 41

تعالىٰ في سورة الأنفال وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ «1».

و الدالّة علىٰ إيجاد الروابط السياسية، و هو قوله تعالىٰ وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ إِنَّهُ

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2».

و اختصاص الآية بطائفة واضح؛ لعدم إمكان التصدّي للزعامة لكلّ أحد. و لكن دعوى اختصاص ذلك بالأئمّة المعصومين غير واضحة.

و الآية و إن كانت غير مصدّرة بالخطابات القانونية الكلّية، و لكن بمناسبة أطرافها [تفيد] عموم الحكم.

فإذا كان الأمر كما تقرّر، فلا بدّ من الناظم السائس المدبّر المشكل للدولة؛ حتّى يتمكّن من الاستعدادات اليومية؛ بإيجاد الشبكات المختلفة و المراكز للقنبلة الذريّة و المطارات للسير في الآفاق [و غيرها]، فإنّ كلّ ذلك إذا كان ممّا يتوقّف عليه الواجب، يكون واجباً شرعاً أو عقلًا؛ علىٰ الخلاف في مقدّمة الواجب.

ذنابة:

في المسألة بعض روايات أُخر نشير إليها:

1 في المرويّ عن المفيد بسنده إلىٰ محمّد بن عليّ (عليه السّلام)، عن آبائه (عليهم السّلام) أنّه قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

المتّقون سادة، و الفقهاء قادة،

______________________________

(1) الأنفال (8): 60.

(2) الأنفال (8): 61.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 42

و الجلوس إليهم عبادة «1».

2 التوقيع الشريف المروي عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب، قال: «سألت محمّد بن عثمان العُمَري (رحمه اللّٰه) أن يوصل إليّ كتاباً سألت فيه عن مسائل أشكلتْ عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه السّلام)

أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّٰه و ثبّتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا و بني عمّنا، فاعلم أنّه ليس بين اللّٰه و بين أحد قرابة، من أنكرني فليس منّي، و سبيله سبيل ابن نوح (عليه السّلام)، أمّا سبيل عمّي جعفر و ولده فسبيل اخوة يوسُف (عليه السّلام)، و أمّا الفُقّاع فشربه حرام، و لا بأس بالشلمباب.

و أمّا أموالكم فلا نقبلها الّا لتطهروا، فمن شاء فلْيصِلْ، و من شاء فلْيقطَعْ، فما آتاني اللّٰه خير ممّا آتاكم.

و

أمّا ظهور الفرج فإنّه إلىٰ اللّٰه تعالىٰ ذكره و كذب الوقّاتون.

و أمّا قول من زعم أنّ الحسين لم يُقتل فكُفرٌ و تكذيب و ضلال.

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه عليهم.

و أمّا محمّد بن عثمان العُمري ..

إلىٰ آخر التوقيع الشريف.

و قال في آخره

و أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك فرجكم. و السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب و علىٰ من اتّبع الهدىٰ «2».

______________________________

(1) الأمالي، الطوسي: 225/ 392، بحار الأنوار 1: 201/ 9، و 67: 290/ 25.

(2) كمال الدين: 483/ 4، الغيبة: 290، الاحتجاج 2: 542، وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 43

3 ما روي عن التفسير المنسوب إلىٰ الإمام (عليه السّلام)

أنّه يُقال للفقيه: أيّها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبّيه و مواليه، قف حتّى تشفع في كلّ من أخذ عنك، أو تعلّم منك «2».

و في موضع آخر: يظهر أنّ أيتام آل محمّد هم المسلمون، و إليه يُشير ما عن الرسول الأعظم (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

يا عليّ أنا و أنت أبوا هذه الأُمّة «3».

و قال في موضع آخر: قال موسى بن جعفر (عليه السّلام)

فقيه واحد كفل يتيماً من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا و التعلّم من علومنا، أشدّ علىٰ إبليس من ألف عابد «1»

فإنّه يُعلم من ذلك أنّ يتيم آل محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أعمّ.

و قال في موضع آخر: عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أنّه قال: «أشدّ من يُتم اليتيم، يتيم انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، و لا يدري

كيف حكمه فيما يبتلىٰ به من شرائع دينه ..» «12».

أقول: احتياج الأُمّة إلى السياسة و الرياسة، و النظم و الناظم، و أنّ كلّ امّة لا يكون صاحب الزعيم الكبير البصير يضمحلّ و يمحو بالضرورة ممّا لا شبهة فيه، و لا نحتاج إلى الرواية فلو استشكل في هذه الأخبار كما هو قابل لذلك، و لكنّه لا يورث الخلل في أساس البحث و ما

______________________________

(2) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام): 344/ 223، بحار الأنوار 2: 6/ 10.

(3) بحار الأنوار 23: 128/ 59.

(1) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام): 343/ 222.

(12) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام): 339/ 214.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 44

هو الدليل الوحيد الفريد المتين البيّن عند أهله و منطقه.

إنّما البحث حول سؤال و نكتة و هو: أنّ هذه المسألة ليست قابلة لأن تكون مخفيّة على أحد من الأصاغر، فضلًا عن الأعلام و الفقهاء؛ فلو كانت الديانة الإسلامية كسائر الأحزاب و الديانات ذات طريقة و سياسة كافلة لعائلة البشر، سياسة و ديناً و دنيا، لما كان يحتاج إلى الاستدلال و الاستظهار.

فهل يمكن ثبوت مثل هذه الدعوى برواية أو روايات، أم هذه المسألة لو كانت مورد نظر زعماء الإسلام من الأوّل، و الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) لكان عند العلماء كالنار على المنار بل كالشمس في رابعة النهار؟! و إن شئت قلت: لو كان الأئمة الهداة الأبرار (عليهم السّلام) في هذه المواقف، لكان عليهم التصريحات على نحو ما صنعوه في سائر الأحكام على وجه لا يخفى علىٰ مثل الشيخ الأنصاري و أتباعه (رحمهم اللّٰه)، و حتّىٰ لا يقال: بأنّ هذه المسألة من البدعة و الضلالة في الدين الإسلامي،

بل الإسلام و المذهب على الاعتزال، و على إمرار المعاش، و هداية الناس إلى الأحكام و الشرائع عند السؤال و الاحتياج، و إلّا فلا يجب شي ء حتّى التبليغ؛ فإنّه من خواصّ الرسل دون الأوصياء و الفقهاء.

فإذا كانت المسألة خفية في الجملة، يستكشف أنّها ليست من الشرع جدّاً، لما أنّها لو كانت منه لبانت كسائر المسائل المبتلىٰ بها

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 45

و الواقعيّات العامّة و التكاليف المهتمّ بها فلا تختلط.

و أمّا اللبّيات المسطورة في بدو المسألة، فهي ليست من الأوّليات الضروريّة، حتّى لا يكاد يشكّ فيها و لا يمكن لعقول البشر الإحاطة الكاملة على جميع أطراف المسألة حتّى يستولي على المصالح النوعيّة الكليّة و المفاسد و تشخيص الحقّ عن الباطل، فربّما كان بعث الأنبياء و الرسل و الأوصياء و الفقهاء في مقابل السلاطين و الخلفاء و الأُمراء و الحكّام، كما هو المشاهد بحسب الاتفاق و التأريخ، بل و التكوين لعدم السنخية بين العادل الواقعي و الحكومة على الناس في هذه النشأة؛ فإنّها لا يمكن إلّا بضرب من التجاوز عن القوانين.

الجهة الثانية: الإجماعات المنقولة و المحصّلة علىٰ ولاية الفقيه

اشارة

قد يتوهّم أنّ دعوى ثبوت الولاية الكلّية الاعتبارية للفقيه من الدعاوي الحديثة و الابتكارات الجديدة، و لذلك توهّم أنّ المسألة لو كانت كما تُوهّم لتبيّنت من الأوّل، و كلّ ذلك للغفلة عن حقيقة الحال.

قال الشيخ المتتبّع و النقّاد البصير المتضلّع الشيخ أحمد النراقي في «العوائد»:

أنّ كلّية ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه أمران: أحدهما: كلّما كان للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و الإمام (عليه السّلام) الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام فيه الولاية، و كان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلّا ما

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 46

أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرهما.

ثانيهما: أنّ كلّ فعل متعلّق بأُمور العباد في دينهم و دنياهم، و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه، و عُلم لابدّية الإتيان به أو الإذن فيه، و لم يُعلم المأمور به و لا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه.

أمّا الأوّل: فيدلّ عليه بعدُ ظاهرُ الإجماع؛ حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات «1». انتهىٰ.

و في بعض كُتب المعاصرين الإجماع بقسميه المنقول و المحصّل علىٰ الولاية العامّة للفقيه «2»، و قد نقل الإجماعات الكثيرة عليها الشيخ (رحمه اللّٰه) في كتاب ... «3»، و في «البلغة»: أنّ حكاية الإجماع علىٰ ذلك فوق حدّ الإحصاء «4»، و هكذا في «العوائد» «5»، و عن المحقّق الثاني، أنّه قال: اتّفق أصحابنا علىٰ أنّ الفقيه العادل الجامع نائب من قِبَل الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل «6». انتهىٰ.

و ربّما يقال: إنّ إحالة الفقهاء في الموارد الكثيرة إلىٰ الحاكم تشهد علىٰ تلك الولاية. و إن شئت قلت: هذا النوع من الإجماع المحصّل،

______________________________

(1) عوائد الأيّام: 536.

(2) بلغة الفقيه

3: 221.

(3) سقط من النسخة التي بأيدينا اسم الكتاب و لم نعثر على نقل الإجماعات الكثيرة في المكاسب و القضاء و سائر مظانّه من كتب الشيخ الأعظم (قدّس سرّه).

(4) بلغة الفقيه 3: 234.

(5) عوائد الأيّام: 536.

(6) رسائل المحقّق الكركي 1: 142، جواهر الكلام 21: 396.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 47

أو قلت: هذه الولاية الكلّية مبثوثة في الفقه من أوّله إلىٰ آخره، و كأنّهم كانوا يتحاشون عن ذكر الاسم دون المسمّى الواقعي، فقالوا بها في موارد كثيرة نذكر جملة منها:

ما للحاكم الشرعي من الولاية في أطوار الفقه

1 في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد وصوله إلىٰ بلده إلىٰ الفقيه.

2 في وجوب دفع الزكاة ابتداء أو بعد الطلب إليه.

3 في تخيّره بين أخذ خمس أرض الذمّي.

4 ولايته علىٰ مال الإمام و ميراث من لا وارث له.

5 في توقّف إخراج الوَدَعي الحقوق علىٰ إذنه.

6 ولايته علىٰ إجراء الحدود علىٰ إشكال يسند إلىٰ ابني زُهرة و إدريس.

7 في أداء دين الممتنع من ماله.

8 و توقّف حلف الغريم علىٰ إذنه.

9 و في القبض في الوقف علىٰ الجهات العامّة.

10 و في نظارته لذلك.

11 و في توقّف التقاصّ من مال الغائب علىٰ إذنه.

12 و من الحاضر في وجه كما قيل.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 48

13 و في بيع الوقف حيث يجوز و لا وليّ له.

14 و في قبض الثمن إذا امتنع البائع.

15 و قبضه من قبل كلّ ممتنع عن قبول القبض و قبض حقّه.

16 و في الدين المأيوس عن صاحبه.

17 و بيع الرَّهْن المتسارع إليه الفساد بإذنه.

18 و تولية إجارة الرهن لو امتنعا.

19 و تعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا.

20 و تعيين ما يباع به الرهن مع تعدّد

النقد.

21 و في باب الحجر علىٰ المفلّس.

22 أو السفيه في قول.

23 و ولايته علىٰ الذي حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع وجود أبيه أو جدّه أو الوصيّ عنهما علىٰ المشهور.

24 و في قبض وديعة الغائب لو احتيج إلىٰ الأخذ.

25 و في إجباره الوصيّين علىٰ الاجتماع أو الاستبدال بهما.

26 و في ضمّ المُعين إلىٰ الوصيّ العاجز.

27 و في عزل الخائن علىٰ القول بعدم انعزاله بنفسه.

28 و في إقامة الوصيّ فيمن لا وصيّ له.

29 أو مات وصيّه.

30 أو كان و انعزل.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 49

31 و في تزويج المجنون.

32 و السفيهة البالغة.

33 و في فرض المهر لمفوّضه البضع.

34 و ضرب أجل العنّين.

35 و بعث الحكمين من أهل الزوجين.

36 و إجبار الممتنع علىٰ أداء النفقة.

37 و في طلاق زوجة المفقود.

38 و إجبار المُظاهِر على أحد الأمرين.

39 و إجبار المولى كذلك.

40 و احتياج إنفاق الملتقط علىٰ اللقيط إلىٰ إذنه.

و غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع، و قد جمع الموارد بعض المعاصرين في بعض رسائله «1».

و يستفاد من تلك الكثرة المُعتنى بها الفاقدة للدليل الخاصّ نوعاً: أنّ الأصحاب من باب إنكارهم تلك الولاية الكلّية كانوا يُفتون بذلك، فلا تغفل.

و أنت خبير بأنّ في مواقف الإجبار لا بدّ من الحكومة و الجند، و إلّا فلا يمكن ذلك؛ لقيام المحكوم علىٰ ضرب الحاكم و شتمه، فلا يكون الحاكم في أمن من كيدهم و مكرهم، فلمكان توقّف هذه الأُمور علىٰ وجود

______________________________

(1) بلغة الفقيه 3: 234.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 50

الحكومة، لا بدّ من تشكيلها حتّى لا يبقىٰ المعروف معطّلًا، فتأمّل.

الجهة الثالثة: حول أنّ ضرائب الإسلام تستتبع الحكومة الإسلامية

اشارة

قد اتّخذ الوالد المحقّق في هذا الميدان سبيلًا آخر للاستدلال علىٰ أنّ الإسلام دين السياسة و

الحكومة و يحتاج إليها بالضرورة، و إنكارها يرجع إلىٰ دعوى منسوخية الإسلام، بل هذا أسوأ حالًا من النَّسخ. و قيل: إنّ من يدّعي ذلك كافر و يُعدّ مرتدّاً، و يجب قتله؛ لأنّه من الضروريات و من الواضح أبديّة الإسلام و خاتمية الرسول الأعظم الإسلامي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم).

و كان نظره في الاستدلال المذكور: إلىٰ أنّ اقتصاديات الإسلام لا بدّ أن تؤدّي إلىٰ الحكومة؛ و ذلك لأنّ وضع الأخماس و الزكوات و الخراجات علىٰ مختلف الأراضي، لا يمكن أن يكون لصرف في احتياجات فقراء الملّة؛ لعدم احتياجهم إلىٰ تلك الضرائِب العجيبة، و لا سيّما الخمس، فإنّه من أعظم الضرائب و أحسنها، فلو كان ذلك لغرض إعاشة الفقير السيّد، أو أبناء السبيل منهم، أو اليتامىٰ، لكان يكفي خمس أحد الأسواق كسوق بغداد لذلك فمن التدبّر في هذا الأمر يظهر أنّ هذه الضرائب المختلفة ليست إلّا لتشكيل الحكومة، كما يظهر من الأخبار الواردة في كتاب الخمس «1»، و قد ذكرنا هناك: أنّ الخمس ليس ملك

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 509 521، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب 1 و 2 و 3.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 51

الإمام و لا الجهات، بل الخمس في يد الإمام (عليه السّلام)، و هو أولىٰ بالتصرّف، و هكذا الفقيه، و سهم السادات صندوق وُضع لمعاش فقرائهم، و إذا فضل يُردّ إلىٰ الحاكم، كما في الرواية «1».

فبالجملة: يحصل للفقيه الناظر في أطراف المسألة: أنّ أخذ هذه الضرائب علىٰ الوجه الصحيح، لا يُعقل إلّا بانضمام الحكومة المبسوطة اليد القادرة علىٰ الأخذ و الصرف، فتلك الحكومة: تارة تكون لغير الفقهاء، فيرجعون إليهم في أُمورهم، و يخيّرونهم في مسائلهم، و هذا عندنا

غير صحيح؛ لأنّ ذلك يُؤدّي إلىٰ ضعفها بين الآحاد، و لا بدّ و أن تكون الحكومة المركزية قويّة.

و أُخرى تكون لأنفسهم، و هذا هو الصحيح، فالحاكم علىٰ العباد لدفع الفساد عن البلاد، لا بدّ و أن يكون هو بنفسه من الفقهاء العدول؛ حذراً عن هذا المحذور و غيره «2». انتهىٰ.

أقول: فذلكة البحث إلىٰ هنا أنّ مقتضىٰ ما تحرّر و تقرّر: أنّ الفقيه الجامع للشرائط زعيم الأُمّة و سلطان علىٰ الرعية، و أنّ ما ثبت للإمام (عليه السّلام) من الولاية الاعتبارية علىٰ الأنفس و الأموال ثابت له، فله بل عليه القيام لانتظام البلاد و نظم العباد إذا أمكن.

و تلك الولاية مجعولة لهم من قِبَل اللّٰه تعالىٰ، أو من قِبَل

______________________________

(1) الكافي 1: 453/ 4، وسائل الشيعة 9: 520، كتاب الخمس، أبواب قسمة الخمس، الباب 3، الحديث 1.

(2) البيع، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 2: 459 499.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 52

المعصومين فيه، وجهان. و لكلّ واحد منهما شواهد. و الأمر بعد ذلك سهل.

الولاية العامّة كانت مورد الإفتاء من السلف

و من العجيب ما حكي عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء؛ حيث أعطىٰ الإذن للسطان فتح علي شاه في أخذ ما يتوقّف عليه تدبير المملكة من الحقوق الشرعية، و الأخذ من الأموال للدفع عن بلاد الإسلام، كما أمر بوجوب طاعته و عدم مخالفته في الجهاد لأعداء الرحمن، و قد جعله نائباً عنه في إدارة شؤون مملكة إيران، و أوجب علىٰ الشعب الإيراني إطاعته في جهاده الأعداء، و أذن له بالأخذ من الزكاة و الخراج في تدبير جنوده و عساكره، و إن لم تفِ أخذ من أموالهم بقدر ما يدفع به العدوّ عن أعراضهم و دمائهم «1».

و هذا في غاية الجودة و المتانة بحسب

الإفتاء، و لكنّه عندنا محلّ مناقشة من جهة أُخرى: و هو أنّ الشيخ [لو] كان يتصدّى لأمر الزعامة- حسب هذه القوة في بلاد العراق، و ما يخلّص الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء الأعداء، لو كان بصدد ذلك لما بقي للسلطان العثماني مقاولة معه بعد اتّفاق الشعب الإيراني و العراقي، و بعد استيلاء الحكومة الإيرانية علىٰ السلطات الكثيرة، فهذا و أمثال هذه الفُرص صارت مغفولة، فأصبحنا مغفولين، و بين أيدينا أعداؤنا و أعداء اللّٰه يذهبون بالدين و الإسلام،

______________________________

(1) كشف الغطاء: 394/ السطر 24.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 53

و نحن كالعاضّ يديه ناظرون إليهم.

ثمّ إنّ المحكي عن الشيخ الورع و الفاضل البارع الشيخ محسن خنفر (رحمه اللّٰه): أنّه كان يذهب إلىٰ الولاية العامّة، و حُكي عن بعض الثقات [حدوث] نزاع بينه و بين صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في الولاية العامّة و كان المحسن يذهب إليها، و يقيم عليها الأدلّة، و الشيخ ينكرها. و قال في أثناء البحث: إن كان الأمر كما تزعم فزوجتك طالق، فأجابه: بأنّ الإشكال صغرويّ «1».

و لا يخفىٰ ما فيه لما سيأتي: من أنّ مسألة الولاية الثابتة للفقيه ليست ولاية الهرج و المرج، كما لا تثبت مثلها حتّى للأئمة (عليهم السّلام) و لا لأحد من الأنبياء و الرسل، فإنّ ولايتهم تابعة للمصالح العامّة أو الشخصية، و ليست جُزافاً؛ وفاقاً لصاحب البُلغة «2»، و خلافاً لظاهر كلمات الأعلام، بل و صريح بعضهم.

الجهة الرابعة: في أقسام الولاية الاعتبارية و حول ما هو المقصود إثباته للفقيه

اشارة

قد عرفت إجمالًا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط الآتية، و إنّما البحث حول أنحائها

______________________________

(1) أعيان الشيعة 9: 48/ السطر الأوّل.

(2) بلغة الفقيه 3: 217 218.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 54

فاعلم أنّ الولاية تنقسم تارة: إلىٰ الولاية الاختيارية كولاية

الوليّ و الوصيّ، و غير الاختياريّة كولاية الأب و الجدّ، و أُخرى: إلىٰ الولاية العامّة المطلقة و العامّة المقيّدة.

أمّا الأُولىٰ: فهي الولاية الاعتبارية، التي تكون ثابتة للإنسان علىٰ ماله و عِرضه و نفسه من المتبدّلات بأنحائها، و من سلطنته علىٰ كيفيّة معاشه و مكانه و غير ذلك، و من تزويجه و تطليقه من غير مصلحة أو مع المفسدة؛ و إن كانت لا تكون هي مطلقة بمعناها الواقعي؛ لعدم جواز تصرّفاته علىٰ الإطلاق؛ لحرمة الإسراف و التبذير .. و هكذا، بل المقصود إطلاق ولايته من حيث المصالح و المفاسد؛ في اختياره المكان المعيّن للعيش و الزمان المعيّن لتشكيل العائلة .. و هكذا.

و الثانية: هي الولاية الثابتة للأب و الجدّ علىٰ الصغير، فإنّها مقيّدة بعدم المفسدة، أو بالمصلحة؛ حسب ما رآه الأصحاب، كما مرّ تفصيله.

و ثالثة: إلىٰ أقسام أُخر ربّما تبلغ إلىٰ عشرة حتّى قيل: إنّ الأولياء عشرة أصناف أو أكثر، كولاية الزوج علىٰ الزوجة، و المُقاصّ للمال عند اجتماع شرائط التقاصّ .. و هكذا.

و الذي هو المقصود لنا: أنّ تلك الولاية الثابتة للإنسان حسب الفطرة و الشرع، هي الثابتة لغيره إماماً كان أو فقيهاً أم لا، ثمّ علىٰ تقدير ثبوتها للإمام (عليه السّلام)، فهل هي تثبت للفقيه أم لا؟ فهنا مبحثان

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 55

الأوّل: المعروف عنهم ثبوتها له (عليه السّلام)،

خلافاً لما نُسب إلىٰ صاحب البُلغة (قدّس سرّه) «1»، و هو الأقوىٰ؛ و ذلك لأنّ إثباتها الاعتباري متقوّم بالغرض و الشهرة، و لا يُعقل أن يُقدّم المعصوم (عليه السّلام) علىٰ مثل هذه الولاية و تنفيذها، فلا يعتبر له (عليه السّلام) مثلها، أ فيمكن اعتبار شي ء لك ملكاً مع عدم إمكان الاستيفاء الملكي منه؟! هذا أوّلًا.

و ثانياً: الأدلّة

قاصرة عن إثباتها.

و توهّم: دلالة قوله تعالىٰ النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2»، و قوله تعالىٰ وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «3»، و قوله تعالى إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ «4»، و ما في بعض الروايات: كرواية أيّوب بن عطيّة

أنا أولىٰ بكُلّ مُؤمنٍ من نفسه «5»

، و ما في الخبر المتواتر بين الفريقين في غدير خُمّ

أ لسْتُ أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلىٰ. قال: من كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه .. «6»

، إلىٰ آخره، و غير ذلك من الأدلّة السمعية، بل و العقلية.

______________________________

(1) بلغة الفقيه 3: 217 218.

(2) الأحزاب (33): 6.

(3) الأحزاب (33): 36.

(4) المائدة (5): 55.

(5) الفقيه: 254/ 14، وسائل الشيعة 26: 251، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 3، الحديث 14.

(6) الأمالي، الصدوق: 12/ 2، بحار الأنوار 37: 108/ 1.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 56

غير واقع في محلّه؛ فإنّ في كلّ واحد منها نظراً، و لا يستفاد من المجموع إلّا أصل الولاية، و أمّا إطلاقها بالمعنى المزبور فممنوع جدّاً عقلًا و عرفاً.

مع أنّ الآية الشريفة لا تدلّ علىٰ أنّ النبيّ أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؛ بمعنى أولويّته علىٰ نفس كلّ واحد من شخصه، بل لعلّ المقصود أولويته علىٰ المؤمنين بالنسبة إلىٰ بعضهم مع بعض فلا يزاحمه الأب و لا الجدّ و لا الوصيّ .. و هكذا، و أمّا ثبوت الولاية للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) علىٰ تطليق زوجة زيد حسب ميله و طبعه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)؛ و إن لا يكون فيه الصلاح الشخصي و النوعي، أو بيع داره و إنفاق أمواله و

إن كان فيه المفسدة، فهو من الفاحش فساده.

و الذي هو المهمّ أنّ أمثال هذه الأفعال لا تصدر عن تلك البيوت المرفوعة، فلا معنىٰ لاعتبارها، فإذاً لا تكون الولاية العامّة للفقيه أيضاً مطلقة بالضرورة، و يظهر ضعف سائر الاستدلالات ممّا أُشير إليه.

المبحث الثاني: هل ولاية الفقهاء بالنيابة و الوكالة أو النصب؟

لو ثبت تلك الولاية للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) حسب التوهّم، فإن كان دليله العقل الحاكم بأنّهم ذات الولاية التكوينية، فجميع الاعتباريات ظلّ ذاك التكوين، فلا تكون هي للفقيه، و إن كان دليله الأدلّة السابقة فلا يفرّق بينهم من هذه الجهة. و اللّٰه العالم.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 57

و إليه ترجع القصّة المحكيّة عن نزاع الشيخين الجواهر و حنفي كما أُشير إليه في الجهة السابقة.

ثمّ إنّ الخلاف في أنّ هذه الولاية الثابتة للفقيه أو للإمام (عليه السّلام)، هل هي من قبيل الوكالة أو النيابة، أو هي من المناصب المفوّضة التي تزول بموت الناصب و الجاعل؟ ثمّ إنّ الناصب و الجاعل هل هو اللّٰه تعالىٰ، أم هو النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، أو الإمام (عليه السّلام) بالنسبة إلىٰ الفقهاء، أو بالنسبة إلىٰ الإمام المتأخّر، ممّا لا فائدة فيه كثيرة.

مع أنّ الأمر واضح؛ ضرورة أنّ قضيّة الأدلّة العقلية ثبوت هذه الولاية بأيّ وجه اتّفق، و تفيد الأدلّة اللفظية أنّ الفقهاء منصوبون من قِبَل الرسول الأعظم (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فتكون الأدلّة الواردة عن الأئمّة المعصومين، إمضاءً لذاك و إن كانت بصورة النصب، كقولهم

جعلته حاكماً

، أو

هو حجّتي عليكم

، أو

جعلته قاضياً

، أو غير ذلك.

و أمّا توهّم: أنّ جعل النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يحتاج إلىٰ الإمضاء المتأخّر، و هكذا إلىٰ أن

تصل النوبة .. في غاية السقوط: أمّا في المقيس عليه فلما تقرّر في محلّه: أنّ أخبار التحليل «1» ناظرة إلىٰ موضع خاصّ، هكذا اشتهر و اتّضح.

و أمّا في المقيس فلأنّ ما هو القدر المتيقّن من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9: 543، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 4.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 58

حكمي علىٰ الأوّلين حكمي علىٰ الآخرين «1»

هو أحكامه الخاصّة، و إلّا فأحكام اللّٰه ليست حكمه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فما هو الصادر عنه بنحو الكلّي و الحكومة باقٍ لا يضمحلّ بموته (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، مع أنّ سكوت الأئمّة الهداة البَرَرة، كافٍ لاستكشاف الخلافة الثابتة لهم من عصره (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فلاحظ، و تدبّر جيّداً.

مع أنّ من الممكن استفادة تلك الحكومة من التوقيع الشريف من ناحيتين:

الاولىٰ: من قوله (عليه السّلام)

و أمّا الحوادث الواقعة

، فإنّها ناظرة في العموم لو لم تكن منصرفة إلىٰ الأُمور السياسية الشخصية.

و توهّم: أنّ سبق السؤال في كلام إسحاق بن يعقوب يمنع عن فهم المعنىٰ المقصود أصلًا و عموماً، في غير محلّه بعد ما عرفت تمام التوقيع الشريف، فإنّ من سائر فقرأته يتّضح الأمر عند المنصف جدّاً.

الثانية: قوله (عليه السّلام)

فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه

فإنّ الحجّة- بمعناها اللغوي ما يحتجّ به، و لكنّها بمعناها المصطلح هو الذي فُوِّض إليه أمر المخلوقين، فإذا قلنا في الشهادة: أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين و حجّة اللّٰه، ليس معناه إلّا أنّه حجّة في جميع الأُمور، و لذلك

______________________________

(1) لم نعثر على هذه الرواية بعينها لاحظ الكافي 5: 18/ 1 و فيه: «حكم اللّٰه عزّ و جلّ

في الأوّلين و الآخرين .. سواء»، و عوالي اللآلي 1: 454/ 197 و فيه: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة».

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 59

يقال

لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها «1».

و لقد أطال الكلام في المقام جدّ أولادي السيّد الحجّة الكوه كمري؛ لاستفادة جميع المناصب من هذا الإطلاق.

و هذا أمر عجيب، فإنّه لا يرضىٰ بدلالة غيرها، فكيف ارتضىٰ بما لا دلالة له رأساً علىٰ شي ء؟! و لعلّ تسميته (رحمه اللّٰه) بالحجّة أوقعه في ذلك، كما لا يخفىٰ فليتأمّل.

نطاق رئاسة الفقيه محيط لجميع شؤون المملكة

و الذي حصّلناه إلىٰ الآن: أنّ الفقيه الجامع، له الرئاسة الكلّية علىٰ جميع الشؤون السياسية في مملكة الإسلام، و يكون له إفناء المصالح الشخصية حذاء المصالح العالية النوعية، فله التصرّفات في أموال الناس، و له السلطنة علىٰ أنفسهم عند اقتضاء الحاجة النوعية ذلك؛ حفظاً للنظام و دفاعاً عن الحوزة المقدّسة الإسلامية، فلا يقصر الإسلام عن سائر الحكومات العصريّة في إدارة المملكة من نواحٍ شتّىٰ؛ حتّى قد ذكرنا في بعض المقامات: أنّ الحاكم في الإسلام يتمكّن من إحداث الشوارع في البلد؛ بتخريب دور المسلمين من غير لزوم التقويم. نعم عليه الإسكان لا بعنوان البدلية و المعاوضة، بل لجهة أنّه قيِّم الأُمّة و رئيس الرعيّة.

______________________________

(1) بحار الأنوار 57: 213/ 22.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 60

الجهة الخامسة: حول بعض الروايات التي ربّما تدلّ علىٰ اختصاص الحكومة و البيعة بالأئمة المعصومين

اشارة

و لا يجوز للآخرين ذلك، بل هي للإمام القائم عجّل اللّٰه تعالىٰ فرجه الشريف و لا يكون لغيره (عليه السّلام):

فمنها: ما رواه الحلبي في «البحار»

عن بعض مؤلّفات أصحابنا، عن الحسين بن حمران، عن محمّد بن إسماعيل و عليّ بن عبد اللّٰه الحسين، عن أبي شعيب محمد بن نصر، عن عمر بن الفرات، عن محمد بن الفضل، عن مفضّل بن عمر، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

يا مفضّل كلّ بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر و نفاق و خديعة، لعن اللّٰه المبايِع لها و المبايَع «1».

و لا أظنّ رواية في رواياتنا أضعف سنداً منها، فراجع آحادها.

و منها: ما رواه النعماني في «الغيبة» و «الكافي» و في «الوسائل»:

عن ابن يعقوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

كلّ راية تُرفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يُعبد من دون اللّٰه عزّ و جلّ «11».

______________________________

(1) بحار الأنوار 53: 8/ 1.

(11) الغيبة، النعماني: 31 و 111 و 114، الكافي 8: 295/ 452، وسائل الشيعة 15: 52، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 13، الحديث 6.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 61

و السند غير نقيّ بالحسين الذي قيل في حقّه: ضعيف جدّاً لا يلتفت إليه، كذّاب وضّاع للحديث، فاسد المذهب «1».

و منها: عن «نهج البلاغة»:

الزموا الأرض، و اصبروا علىٰ البلاء، و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوىٰ ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجل اللّٰه لكم، فإنّه من مات منكم علىٰ فراشه، و هو علىٰ معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و حقّ أهل بيته، مات شهيداً، و وقع أجره علىٰ اللّٰه، و استوجب ثواب ما نوىٰ من صالح عمله، و قد مات البيّنة مقام إسلامه، فإنّ لكلّ شي ء مدّة و أجلًا «2».

و غير خفيّ: أنّ من يعرف بلاغته (عليه السّلام) و فصاحته، يطمئنّ بأنّه من الأكاذيب المنسوبة إليه؛ لخُلُوّها عن خصوصيّات الخطب اللازمة رعايتها علىٰ الخطيب، و سيظهر وجه تصدّي الخائنين لجعل هذه المآثير، بل ربّما يجعلون و ينسبون إلى غيره (عليه السّلام) كأبي بكر ما يشبه ذلك، أو إلىٰ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فراجع الآثار و الأخبار.

و منها: ما رواه العيّاشي و الشيخ و الحرّ العاملي في «إثبات الهداة»

و النوري في «المستدرك»: عن جابر، عن الباقر (عليه السّلام)

الزم الأرض و لا تحرّك يداً و لا رجلًا حتّى ترى علامات أذكرها لك

، و في ذيلها

و تُقبل راية خراسان حتّى تنزل ساحل دجلة، يخرج رجل من الموالي ضعيف

______________________________

(1) قال الشيخ الطوسي في رجاله: «أنّه واقفي» و لم نعثر على ما ذكره المؤلّف (قدّس سرّه)، لاحظ رجال الطوسي: 346.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 282، الخطبة 190.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 62

و من تبعه، فيُصاب بظهر الكوفة، و يبعث بعثاً إلىٰ المدينة فيقتل بها رجلًا، و يهرب المهدي، و المنصور منها .. «1»

إلىٰ آخر الحديث.

و منها: عن الباقر (عليه السّلام) خطاباً إلىٰ أبي الجارود:

أن تلزم بيتك و تقعد في دهماء هؤلاء الناس، و إيّاك و الخوارج منّا، فإنّهم ليسوا علىٰ شي ء، و لا إلىٰ شي ء ..

إلىٰ أن قال

و اعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضَيماً أو تُعزّ ديناً، إلّا صرعتهم البليّة؛ حتّى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) لا يوارى قتيلهم، و لا يداوىٰ جريحهم. فقلت: من هم؟ قال: الملائكة «2».

و منها: عن الباقر (عليه السّلام):

و مَثَلُ مَن خرج منّا أهلَ البيت قبل قيام القائم (عليه السّلام) مَثَلُ فَرْخ طار أُوقع من وكْره، فتلاعب به الصبيان «3».

و منها: ما عن «أربعين المجلسي (رحمه اللّٰه)»

قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

ما خرج و لا يخرج منّا أهلَ البيت إلىٰ قيام قائمنا أحد؛ ليدفع ظلماً و يُنعِش حقّا، إلّا اصطلمته البليّة، و كان قيامه زيادة في مكروهنا و شيعتنا «4».

و منها غير ذلك

ممّا يمكن أن يطّلع عليه المتتبّع، و لكنّه لا يجد إلّا

______________________________

(1) تفسير العياشي 1: 64، الغيبة، الطوسي: 441، إثبات الهداة 3: 732/ 78، مستدرك الوسائل 11: 37، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه، الباب 12، الحديث 11.

(2) الغيبة، النعماني: 194، مستدرك الوسائل 11: 35، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه، الباب 12، الحديث 5.

(3) الغيبة، النعماني: 199، مستدرك الوسائل 11: 37، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه، الباب 12، الحديث 9.

(4) لم نعثر عليه في الأربعين، لاحظ مقدمة الصحيفة السجاديّة: 16.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 63

في مثل هذه الكتب المعدّة لإسقاط الأحاديث، كما لا يخفىٰ.

نعم في الباب المزبور آنفاً من «الوسائل» طائفة من الأخبار تحتوي علىٰ الردع عن القيام بالسيف، و قضيّة إطلاقها المنع عنه حتّى للدفاع عن الحقّ، و هذا ضروريّ البطلان، مع ما في سند بعض منها و دلالة البعض الآخر، فراجع و تدبّر.

ثمّ إنّ عصر الخلفاء الجائرين كان يقتضي جعل هذه الأخبار؛ لإخماد النار المشتعلة ضدّهم، و هذا الأمر ممّا هو الواضح البارز من الأوّل إلىٰ عصرنا هذا، و هو مقتضىٰ كَيْد الكَيَدة و مَكْر المَكَرة، و أيّ كيد أحسن من ذلك؛ حتّى أورث سكوت أعلام الشريعة في العصور المختلفة، و أوجب التردّد في الأمر و الشكّ في الوظيفة؟! و هذه الأيادي ربّما نهضت لإخفاء المسألة عليهم؛ باستراق الأحاديث التي تحثّ المسلمين ضدّهم.

هذا، و لو سلّمنا صدور مثلها

عنهم (عليهم السّلام) فجهة الصدور واضحة، و هي التقيّة من هؤلاء الجائرين الظالمين، فإنّهم (عليهم السّلام) كانوا متّهمين بتطلّب الرئاسة و جلب الناس إلىٰ أنفسهم للحكومة الحقّة، و ما كان ذلك بمجرّد الوهم و الخيال، بل كانوا يرون ذلك منهم (عليهم السّلام) في شتّىٰ النواحي الشتّىٰ حسب بعض الآثار و التواريخ.

فبالجملة: لا يمكن العثور علىٰ تلك الآثار و اللُّبّيات الواضحة حذاء هذه الأخبار المخدوشة من جهات كثيرة، و لو لم يكن بسط الكلام

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 64

في المقام خروجاً عن وضع الكتاب و الباب، لدخلت المسألة من بابها و أوضحتها حقّها؛ كي لا يبقىٰ بعد ذلك شبهة عند أحد من المنكرين، فنرجو للّٰه تعالىٰ أن يوفّقني لذلك، فإنّه خير موفّق.

الجهة السادسة: حول شرائط الحاكم الإسلامي

اشارة

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)؛ ص: 64

1 لا بدّ و أن يكون الحاكم فقهياً عارفاً بالحلال و الحرام،

و مجتهداً في المسائل الفرعية، بل و في الاعتقادات الأُصولية علىٰ إشكال فيه.

و يدلّ عليه مضافاً إلىٰ أنّه القدر المتيقّن من الخارج عن الأصل المآثيرُ السابقة الشاملة لاعتبار عرفان الحاكم قضايانا و الحلال و الحرام و لرواية الحديث و سُنّة الرسول الأكرم (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، مع أنّ الاحتياط في السياسات ممّا لا يرجع إلىٰ محصّل، بل يستلزم ضعف الحكومة، و هكذا التقليد، فإنّ الرجوع إلىٰ الفقهاء في فهم المسائل يُورث ضعف الحكومة المركزية، و هو خلاف الفهم العقلائي و الشمّ السياسي.

و لكنّ في المسألة إشكالًا: و ذلك لأنّ دليل العقل لا يقتضي أزيد من عدم جواز تعطيل الأحكام، و عدم جواز نسخ الشريعة و إلغائها و إنسائها، و الدليل اللفظي علىٰ ما عرفت منّا مؤيّد لهذه المسألة العقلية، و لا يتمّ لإفادة الحكومة الإسلامية. نعم رواية «العلل» جامعة لشتات المسائل، و لكنّها ظاهرة في عدم اعتبار فقاهة الحاكم و أُولي الأمر، و ذلك

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 65

لقوله (عليه السّلام)

و منها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيِّماً أميناً حافظاً مستودَعاً لَدَرَسَت المِلّة و ذهب الدين، و غُيّرت السُّنّة و الأحكام .. «1»

، إلىٰ آخره، فإنّه لو كان الشرط كونه فقيهاً لأشار إليه و لذكره؛ لأنّه أولىٰ بالذكر، مع أنّ الحاكم الإسلامي لا يتمكّن من تحصيل الفقه بهذا الوسع و إدارة الشؤون السياسية، و هذا ربّما يؤدّي إلىٰ ضعف الحكومة، فلا يشترط كونه فقيهاً، بل لو كان

تحت سلطان الفقيه حسب الأحكام الإسلامية لكفىٰ، كما كان سلاطين الصفويّة و بعض القاجارية و أمثالهم، مع أنّهم كانوا يُخطّئونه و لا يأتمرون بأوامره و لا ينتهون عن نواهيه، و لذلك لو كان الفقيه يسلبه عن مقامه و يمنعه عن رئاسته، لكان يعدمه أحياناً.

و أمّا لزوم ضعف الحكومة فهو في حدّ نفسه ليس يُنكر في الجملة، و لكنّه لا يؤدّي إلىٰ الفتور في الحكومة و أساسها، و ليس هذا من الأحكام العقلية الواضحة حتّى يعتبر شرعاً في الحاكم.

2 لا بدّ و أن يكون عادلًا،

و هذا ممّا لا يكاد يُنكر، و هو قضيّة العقل و النقل علىٰ ما عرفت في خلال المباحث السابقة، و قد ورد في الكتاب العزيز الأمر بالحكم عن عدالة في المواضع الكثيرة، و هو مقتضىٰ اعتبار الأمانة و القيمومة و الحفظ و الاستيداع، كما في «العلل» و غيرها.

و أمّا دعوى: أنّ الفسق في المسائل الشخصيّة، يجتمع مع العدل في المسائل النوعيّة و الاجتماعية، و لا يعتبر أزيد من هذا القدر من

______________________________

(1) علل الشرائع: 253.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 66

العدالة، فهي غير مسموعة؛ لأنّ مجرّد الإمكان الثبوتي لا يكفي؛ لأنّ الفاسق الغير الأمين علىٰ الحلال و الحرام الإلهيين الشخصيين و في الأحكام الفردية، غير قابل لجلب الاعتماد و تحصيل الاطمئنان الذي به قوام الحكومات، فإنّ الملّة لا بدّ و أن تكون ذات طمأنينة بالنسبة إلىٰ الحكومة؛ حتّى يتمكّن الحاكم من إمرار أُموره و تقويم مملكته، فسقوط الفاسق عن نيل العهد و الظالم عن درْك الحكومة، عندي من الواضحات الأوّلية و من البديهية الأُولىٰ، كما لا يخفىٰ. نعم إذا رأى الفقيه مصلحة تصدّيه في مورد فهو إليه، كما كان ذلك في زمان بعض المعصومين (عليهم السّلام).

3 هل يعتبر كون الحاكم سائساً و خبيراً بالأوضاع و بصيراً بالأُمور،

و عاقلًا في تشخيص المصالح و تنظيم المشاغل، أم يكفي مجرّد كونه فقيهاً عادلًا؟

لا شبهة في الأوّل؛ ضرورة أنّ قوام الأمر الواجب و هي الحكومة و تشكيل السلطنة علىٰ الرعيّة، يحفظ النظام بين الأُمّة بمثله، و لا يجوز لغيره تصدّيه؛ للزوم اتّهام المذهب بالانحراف و الابتذال، و هذا بحكم العقل غير جائز، بل في رواية «العلل» ما يؤيّد ذلك، و يكون كالنصّ في اشتراط الأُمور الأُخر في الرئيس و القيِّم، كما نرىٰ ذلك في الرؤساء الجائرين.

و لو قيل:

مقتضىٰ الشكّ في الشرطية جواز التصدّي؛ لعمومات

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 67

الحلّ و البراءة.

قلنا: مقتضىٰ الأصل عدم جواز حكومة أحد علىٰ الآخر و عدم نفوذ تصرّفاته، و القدر المتيقّن من الخارج عنه مَنْ كان واجداً لتلك الشرائط، فما ترى في كتب الأصحاب فهو في محلّه؛ لعدم اشتراط هذه الخاصّة في القاضي، و الحكم في الخصوصيات الجزئية و إن كان ربّما يرجع بعض الحركات المنتسبة إلىٰ بعض أرباب الفقاهة و العدالة إلىٰ قصور في الرُّشد، و هو غير صحيح قضاؤه حينئذٍ.

و لا يُقدم العقلاء علىٰ جعل مثله حَكَماً بينهم في أمرهم، فلا معنىٰ لتخيّل أنّ الشرع المقدّس الإسلامي، يأتي بما ليس في حدّ الفهم العقلائي في هذه المسائل العرفيّة، بل ما جاء به الإسلام يطابق العقل البرهاني في المسائل البرهانية، و العقل العرفي في المسائل الاجتماعية و إدارة المملكة الإسلامية، فلا ينبغي إسناد الجهالة إليه جدّاً.

كيف، و كان رؤساء المذاهب ساسة البلاد كما في الزيارة الجامعة و غيرها، فالفقيه خليفة هؤلاء في جميع شؤونهم، فلا بدّ و أن يكون واجداً للأوصاف المعتبرة في أمر الولاية و الحكومة، دون ما لا يكون لازماً في هذا الموقف، و هو العلم بالمغيّبات و الكائنات و أُصول الحروف و الأعداد و الجفر الجامع.

و بالجملة: لا يلزم أن يكون رئيس الإسلام في جميع الأعصار معصوماً عارفاً بالواقعيات، عالماً بالأكوان السابقة و اللاحقة، و إن كان

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 68

في برهة من الزمان الأمر كما تحرّر، إلّا أنّ تلك الأوصاف ليست دخيلة في أساس المسألة، كما لا يخفىٰ.

فلو كان بين الأُمّة [شخص] عارف بالقانون، و سائس عارف بالأُمور السياسية في تنظيم المصالح في المملكة الإسلامية،

فعلى الفقيه نصب ذلك إن كان عادلًا. و هذا من الشواهد علىٰ أنّ الفقاهة ليست شرطاً في سائس البلاد الإسلامية، بل يكفي كونه منصوباً من قِبَل ذلك الفقيه، و اللّٰه العالم بالأُمور، فتأمّل.

إفاضة القدير و إعادة الضمير: قد اشتهر في كلمات أصحابنا أنّ كلمة الإمام منصرفة إلىٰ الإمام المعصوم (عليه السّلام)، فما في الأخبار الكثيرة الواردة في الحدود و التعزيرات؛ من إحالتها إلى الإمام، فالمراد منه هو الإمام المعصوم (عليه السّلام)، فلو كانت الحكومة الإسلامية لغيره (عليه السّلام) لكان يجوز له إجراؤها، و هذا خلاف تلك النصوص الكثيرة البالغة إلىٰ حدّ التواتر، و الالتزام بالتخصيص في الحدود و بعض الأحكام الأُخر، كما اشتهر حتّى قيل بعدم جواز تصدّيه في أمثال الأخماس و الزكوات و غيرهما من أخذ الكفّارات و غيرها، يورث الفتور في الحكومة، و يكون شاهداً علىٰ جواز تعطيل أمثال هذه الأحكام، فلا يبقى مورد يتدخّل فيه الفقيه من الأُمور السياسية، بعد إخراج هذه الكلّيات الأساسية، بل حفظ الحدود و سدّ الثغور يتوقّف علىٰ أخذ الضرائب الإسلامية، و إذا كان هو مخصوصاً به (عليه السّلام)، فيكون هو أيضاً معطَّلًا، و اللّٰه يعصمنا من ذلك التسويلات الباطلة.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 69

و الذي يظهر لي: أنّ كلمة الإمام ليست منصرفة إلىٰ الإمام المعصوم (عليه السّلام) إلّا في الأعصار المتأخّرة، و إلّا فهي تدلّ علىٰ ما هو الموضوع له، و هو المقدّم علىٰ الناس في أُمورهم و حاجاتهم، و الملاذ و الملجأ فيها عند الضرورات.

و يشهد لذلك جملة من السير و التواريخ و الأحاديث، و نشير إلىٰ [نُبذة] منها:

1 عن الباقر (عليه السّلام)

إذا أُخذ رقيق الإمام لم يُقطع، و إذا سرق واحد من رقيقي

من مال الإمارة قطعت يده «1»

فقد وقعت المقابلة بين الإمام و المعصوم (عليهم السّلام) في هذه الرواية.

2 و عن كتاب «تحف العقول» و غيره عن السجّاد (عليه السّلام)، قال

كلّ سائس إمام «2».

3 و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلىٰ عثمان

اعلم أنّ أفضل عباد اللّٰه عند اللّٰه إمام عادل هُدىً، فأقام سُنّة معلومة و أمات بِدعة مجهولة «3».

4 و عن المفيد عنه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، قال

إنّ شرّ الناس يوم القيامة الثلاث.

قيل: و ما الثلاث يا رسول اللّٰه؟ قال

الرجل يسعىٰ بأخيه إلىٰ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 10: 111/ 439، وسائل الشيعة 28: 299، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ السرقة، الباب 29، الحديث 5.

(2) تحف العقول: 255، مستدرك الوسائل 11: 154، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس و ما يناسبه، الباب 3، الحديث 1.

(3) نهج البلاغة، صبحي الصالح: 234 235.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 70

إمامه فيقتله، فيهلك نفسه و أخاه و إمامه «1»

فإنّه منحصر بالإمام الجائر، كما لا يخفىٰ.

5 و عن ابن بابويه، عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السّلام)، قال: سمعته يقول

و عليكم بالطاعة لأئمّتكم؛ يعني بذلك ولد العبّاس «2».

و ربّما كان يُطلق الإمام علىٰ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و بعض الخلفاء الجائرين الأوّلين؛ حسب الأشعار و التواريخ، فعن عمّار في الجمل خطاباً إلىٰ عائشة:

و أنتِ أمرتِ بقتلِ الإمام و قاتله عندنا من أَمَرْ

«3» 6 و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)

يا كُميل لا غزو إلّا مع إمام عادل، و لا نقل إلّا عن إمام فاضل «4».

7 و عن الصادق (عليه السّلام)

الواجب علىٰ الإمام إذا نظر إلىٰ رجل يزني و يشرب خمراً، أن يُقيم

عليه الحدّ، و لا يحتاج إلىٰ بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّٰه في خلقه «5».

و فيه مضافاً إلىٰ دلالته علىٰ أنّ المراد من الإمام ليس المعصوم؛

______________________________

(1) الاختصاص: 228، مستدرك الوسائل 18: 214، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 2، الحديث 13.

(2) بحار الأنوار 47: 162/ 1.

(3) مروج الذهب 2: 371.

(4) وسائل الشيعة 27: 30، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 34.

(5) تهذيب الأحكام 10: 44/ 157، وسائل الشيعة 28: 57، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود، الباب 32، الحديث 2.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 71

لأنّه لا يتعارف منه النظر إلىٰ الزاني حين زِناه دلالة علىٰ أنّ الرئيس أمين اللّٰه في خلقه، و يكون متصدّياً لأُمور الخلق، فتأمّل.

ثمّ إنّ في جملة من الأخبار في كتاب الحدود لفظة: «الوالي» «1» و «السلطان» «2»، و عن مقنعه المفيد في رواية «سلطان الإسلام» «3»، و لا شبهة في انصراف أمثال هذه الكلمات إلىٰ الأعمّ، مع أنّ في كثير من الأخبار ترخيص إجراء الحدود حتّى إلىٰ سلاطين الجور «4»، و احتمال أنّه من الإذن الخاصّ، فلا يجوز للفقيه ذلك، في غير محلّه.

فتحصّل: أنّ كلمة الإمام ليست منصرفة إلىٰ المعصوم (عليه السّلام)، ففي روايات العيد إشارة إلىٰ أنّ ذلك إلىٰ إمام المسلمين «5»، و لا شُبهة في أنّ الفقهاء يحكمون في مواقف الشكّ. نعم ربّما يمكن دعوى عدم جواز إجراء الحدود قبل تشكيل الحكومة؛ لأنّه بدونه يستلزم الفاسد للمُجري، بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة 28: 208، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ القذف، الباب 22، الحديث 1، و: 212، الباب 25، الحديث 2، و: 228، أبواب حدّ المسكر، الباب 6، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 28: 18، كتاب الحدود

و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود و أحكامها العامّة، الباب 4، الحديث 1 و الباب 17، الحديث 1.

(3) المقنعة: 810، وسائل الشيعة 28: 49، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود و أحكامها العامّة، الباب 28، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة 28: 141، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ الزنا، الباب 36، الحديث 2.

(5) وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 5.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 72

هو قبلها لا يعدّ إماماً فلا ينبغي الخلط بين المسائل.

الجهة السابعة: في الأُمور المشكوكة تفويضها إلى الفقيه

اشارة

إذا تبيّن أنّ للفقيه الجامع إصلاح حال المسلمين فيما يحتاجون إليه في أمر دينهم و دنياهم، فلا يبقىٰ شي ء إلّا و له الدخالة فيه؛ حتّى لا يبقى الناس في الضلالة عن دينهم، و لا يحصل في قلوبهم الفتور في أمر مذهبهم.

و مع ذلك فربّما يُشكل الأمر في أُمور، ربّما قيل: إنّها غير مُفوَّضة إلىٰ الفقهاء في عصر الغيبة، أو يشكّ في أنّ هذا الأمر مثلًا الجهاد هل يختصّ بالإمام المعصوم (عليه السّلام) و في عصره أم يشترك فيه غيره.

فهنا مقامان:

المقام الأوّل:

لا شبهة في أنّ كلّ معروف عُلم من الشرع أنّ ذلك اعتبر واجب الوجود، و لا تكون الهيئة بالنسبة إليه مقيّدة و لا مشروطة، بل الطلب مطلق، إلّا أنّ الإجراء مترتّب، و يكون المتصدّون للإجراء مختلفي الرُّتب و متفاوتي النِّسَب، فهو موكول إلىٰ الفقيه الجامع؛ لأنّه القدر المتيقّن.

و إنّما الشبهة فيما إذا لم يكن المعروف هكذا، و لا يستلزم تعطيله اختلال النظام، فإن كان في تعطيله تضعيف ديانة الناس و تبعية رغبة الأُمّة إلىٰ الإسلام، أو صرف أذهانهم إلىٰ سائر الديانات السهلة، فلا بدّ

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 73

من تصدّيه؛ لما مرّ من الأدلّة الكافية لإثبات أنّ الأُمور بيد هؤلاء الأعلام، و من ذلك تطليق المرأة في مواقف الضرورة، و المحافظة علىٰ أموال آحاد الناس و الصغار .. و هكذا.

و إذا لم يكن تعطيله مستلزماً لمثل ذلك، فإن كان فيه بسط الحكومة الإسلامية و لا يكون تمزيق الديانة الحقّة، الذي احتملنا عند تركه و يستوحش الفرق الباطلة من مثل تلك الملّة و الشريعة، فعليهم القيام بذلك.

و من هنا يظهر: أنّ المسائل المالية و جميع الضرائب الإسلامية و المسائل السياسية و جميع الجزائيات

الإسلامية، كلّها من الوضحات التي بيدهم، و عليهم الإجراء عند اجتماع الشرط الآخر، و هو وجود الحكومة و الرياسة، و منها الدفاعيات الإسلامية؛ فردية كانت، أو كلّية و نوعية، فإنّها من الوظائف الأوّلية، بل في اختصاص الجهاد الاصطلاحي بالمعصوم (عليه السّلام) إشكال جدّاً.

فهذه الأُمور و إن استُشكل فيها، إلّا أنّها عندنا واضحة السبيل، فعلى كلّ حال خلود الإسلام المقتضي لخلود الأحكام الفردية و النظامية، يقتضي خلود الوظيفة الأصلية، و هو التبليغ و الإرشاد و بسط الحكومة في البلد و القطر، و ما ترى في عصرنا من عدم جواز تصدّي أحد لأحد غير صحيح، بل المرام لا بدّ من نشره إلىٰ أقصى البلاد و أبعد النقاط، و لذلك نجد الفرق الواضح بين الحكومات التي تكون ذات مرام، كما في الأقطار

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 74

الشيوعية، و بين غيرها، فإنّ الاولىٰ في جميع الأحيان بصدد البسط و التوسعة، و الإسلام هكذا فإن التزم المخالف بالجزية فهو، و إلّا فلا بدّ من الجهاد حتّى لا يبقىٰ حكومة حذاء تلك الحكومة الحقّة.

و إن لم يكن في بسطه صلاح لحال الإسلام و لا المسلمين، و لا إصلاح حال الفرد، فلا يجوز له التصدّي؛ لما عرفت منّا أنّ منزلة الحكومة الإسلامية كسائر الحكومات العرفية، تابعة للمصالح النوعية، مراعية للمرامات و الاعتقادات الدينية، و محافظة لتمايلات عائلة البشر بالنسبة إلىٰ الدين و المذهب المقدّس. و اللّٰه العالم بحقائق الأُمور.

ثمّ إنّ لكلّ واحد من تلك الموضوعات، كالزكاة و الخمس و الجهاد و الأمر بالمعروف، و هكذا المسائل الحقوقية و الحدود الدِّيات و القِصاص، و غيرها من السياسات، كتاباً خاصّاً مشتملًا علىٰ مسائلها، و لا نتمكّن الآن من الغور في خصوصياتها،

و ذكرِ بعض القرائن منها علىٰ هذا المشرب الأصلي و الأعلىٰ، و الإحالة إلىٰ محالّها، و أحسن كما مرّ.

المقام الثاني:

إذا شكّ في أمر أنّه من مختصّات النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) أو يجوز للوليّ (عليه السّلام) أن يتولّاه و لم يكن دليل لرفع الشبهة، فإن كان ممّا يُدرك العقل لزومه فهو، و إلّا فمقتضىٰ الأصل عدم جواز التصدّي له (عليه السّلام)، و هكذا بالنسبة إلىٰ الفقيه، و لكنّه كما لا معنىٰ للشكّ الأوّل لا مورد للشكّ الثاني؛ لقيام الأدلّة.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 75

و لا يمكن لي الالتزام بأنّ الإسلام يكون ذا أحكام عالية راقية تُحوِج إليها الأُمّة، و تكون ذات تدبير في الرعيّة، و مع ذلك مشروط إجراؤها بشخص، و هو إمّا ميّت أو غائب. نعم في الأُمور الجزئية إذا حصلت الشبهة فالأصل عدم جواز التصدّي؛ لعدم نفوذ تصرّفه، و لو صحّ التمسّك بالبراءة للمتصدّي فلا يصحّ التمسّك بها للتصحيح كما تحرّر.

و غير خفيّ: أنّ التصدّي إذا كان مشكوكاً حكمه جوازاً و حرمة، و كان الدليل الأوّلي مانعاً عنه، فلا تصل النوبة إليه. نعم إذا كان إطلاق ذلك ممنوعاً فلها المجرىٰ، مثلًا إذا شكّ في جواز المحافظة علىٰ مال الصغير، فإنّه تجري البراءة العقلية عن شبهة التحريم، و لكنّه إذا لم تكن المحافظة ممنوعة شرعاً ابتداء؛ لأنّها تُعدّ تصرّفاً و هو غير جائز. اللّهمّ إلّا أن يقال بقصور تلك الأدلّة عن شمول مثله، فيجوز ذلك تكليفاً لا وضعاً، فلا تخلط.

الجهة الثامنة: في أنّ تصدي الزعامة مشروط بشروط

هل يجوز لآحاد الفقهاء المنتشرين في البلاد في هذه الأعصار التصدّي لتلك الزعامة قبل تشكيل الحكومة، المشتملة علىٰ القوّة الدفاعية عند الهجمة عليه من قِبَل الحكومة المركزية، أم لا، بل

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 76

لا بدّ من تفويض الأمر إلىٰ غيره، و لا يجوز له

إجراء أيّ من الأحكام السياسية، و لا الدخالة في أمر من الأُمور المالية و غيرها، إلّا بمقدار الضرورة التي يحتاج إليها فرداً؟

أقول: لا شبهة في وجوب تشكيل الحكومة الجامعة للنظام الداخلي و المشتملة على القوى اليومية للدفاع، فإذا لم يتمكّن الفقيه من ذلك كما في عصرنا هذا فإن خاف من التصدّي أن يتعرّض من قِبَل الحكومات الجائرة بالنسبة إلىٰ نفسه أو أحد آخر محترم المال و العرض، فلا يجوز بالضرورة من العقل و الشرع.

و إذا ساعدته الحكومة الجائرة علىٰ إجراء بعض الأحكام الشرعية، فهل يجوز له تصدّيه، أم لا؟ وجهان: من أنّ الواجب لا يسقط إلّا بمقدار الضرورة، و لا يجوز تعطيل الحدود إلّا ما لا يمكن إقامتها.

و يشهد لذلك ما أُشير إليه من بعض الروايات، الدالّة علىٰ أنّ الأئمة (عليهم السّلام)، كانوا يرجعون إلىٰ سلاطين الجور لإجرائهم الحدّ الإلهي بالنسبة إلىٰ المستحقّين.

و من أنّ ذلك يُنافي المقاومة السلبية التي يُستظهر من الأخبار لزومها «1»، فإنّ التصدّي لبعض الأُمور، ربّما يُؤدّي إلىٰ بقاء السلطان الجائر و تسليط الحكومة الفاسدة و إحكام بنيانها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 27: 11 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 1، الحديث 1 6.

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 77

و بعبارة اخرىٰ: ترك ما هو الوظيفة بنحو الإطلاق، ربّما يؤدّي إلىٰ سقوط حكومة الباطل؛ لاستلزامه الهرج و المرج، مثلًا بخلاف التفكيك و التجزئة، فإنّ ذلك تحكيم للباطل و تنفيذ لما هو المبغوض الأعلى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ في المسألة تفصيلًا، فإنّه تارة يكون في ترك التصدّي علىٰ الإطلاق؛ رجاء إسقاط الجائر عن الحكومة المغصوبة، و أُخرى لا يكون الأمر كذلك، ففي الصورة الأُولىٰ يتعيّن ذاك، و في الثانية يتعيّن ذلك. و

اللّٰه العالم بحقائق الأُمور.

الجهة التاسعة: حول ممنوعيّة الفقيه عن مزاحمة الزعيم و الإمام

قضيّة ما تحرّر حسب الأخبار: أنّ الفقهاء لهم الولاية التامّة في أمر الدين و الدنيا تحت ظلال القانون الإلهي، و علىٰ هذا ربّما يُشكل الأمر في صورة التزاحم.

و الذي هو الظاهر لي: أنّ الفقيه الذي بنى الحكومة الإسلامية، و تصدّى للزعامة العامّة، و شكّل النظام البلدي و القطري في المملكة الإسلامية، فهو المتَّبع في المصالح و المفاسد، و لا يجوز للفقيه الآخر أن يتدخّل في الأُمور؛ بحيث يورث ضعف الحكومة الإسلامية؛ حتّى إجراء الحدود و أخذ الضرائب؛ لأنّ هذه الأُمور بيد الإمام و الوالي، و من هو الإمام و الوالي؟ هو المتقدّم عرفاً [و وليّ] الأمر عند العقلاء، لا الذي هو المجعول حكومته في مقبولة عمر بن حنظلة، فإنّه حاكم بين الشخصين

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 78

في الأُمور الجزئية الشخصية، كما عرفت منّا تحقيقه.

و هذا الذي ذكرناه يجري حتّى بالنسبة إلىٰ قضائه و فصل خصومته؛ لعدم الدليل علىٰ نفوذ قضائه في هذه الصورة. و لقد عرفت منّا سابقاً: أنّ مسألة إجراء الحدود و أخذ الضرائب و غيرهما موكول إلىٰ الوالي و الإمام، و ليس المراد من الإمام و الوالي هو المقبوض اليد بل الإمام هو المتصدّي المبسوط اليد، فإذا قام و نهض أحد من الفقهاء، و بنىٰ أساس الحكومة كسائر الحكومات، فعليه تنفيذ هذه الأحكام و علىٰ الآخرين اتباعه في الآراء و العقائد، إلّا فيما لا يرجع إلىٰ التخلّف عن الحكومة بتضعيفها، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّ من الممكن دعوى: أنّ الزعيم الفقيه هو الذي تُعيّن عليه الواجبات الكفائية، فلا يجوز للآخر مزاحمته، و لا التدخّل في سلطانه و إن لم يورث الضعف و الفساد؛ للزوم سدّ باب الاحتمال،

فإنّ ذلك مظنّة تضعيف الحكومة المركزية، و يكفي للمنع هذا الاحتمال، بعد عدم وجود إطلاق ناهض علىٰ جواز تصدّيه في هذه الصورة، كما هو كذلك في الحكومات العرفيّة.

نعم في صورة تخلّف الفقيه عن الوظائف يسقط قهراً، و علىٰ الآخر عند الإمكان منعه و نصب الآخر، أو التصدّي بنفسه، فلا تخلط، و كن علىٰ بصيرة من أمرك.

ثمّ إنّ إثبات الولاية للفقيه علىٰ الصغار و غيرهم عند وجود

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 79

الأولياء المنصوصين، مُشكِل و إن كان ربّما يستظهر من بعض الأخبار، و لا حاجة لنا في هذا المضمار البحث عنه، فالعدول عنه أولىٰ.

ملحق البحث و ثمرة مسألة الولاية

فذلكة الكلام في المقام: هو أنّه تعالىٰ قد جعل للفقيه كلّ ما جعله للإمام (عليه السّلام)؛ من حيث رئاسته علىٰ كافّة الأنام، و سلطنته علىٰ سائر العباد، و إدارته لشؤون الملّة و إمامته لقيادة الأُمّة و تنفيذ القوانين الدينية و تطبيقها و تدبير الشؤون الحياتية في الرعيّة و تنظيمها، و الفقهاء- رضي اللّٰه عنهم عبّروا عن هذه الرئاسة الكافلة للأيتام بالولاية، و هي التي من آثارها الإفتاء و القضاء و قبض ما يعود لمصالح المسلمين، كأموال الخراج و المقاسمة و الأوقاف العامّة و النذور و الجزية و الصدقات و مجهول المالك و اللُّقطة قبل التعريف و قبض ما يعود للإمام (عليه السّلام) من الأموال، كحقّ الإمام و الأنفال و إرث من لا وارث له، و التولّي للوصايا مع فقد الوصيّ و للأوقاف مع فقد المتولّي، و حفظ أموال الغائبين و اليتامى و المجانين و السفهاء، و التصرّف بما فيه المصلحة لهم؛ حفظاً أو إجارة أو بيعاً أو نحو ذلك، و جعل بيت المال، و نصب الولاة علىٰ الأمصار و

الوكلاء و النوّاب و العمّال المعبَّر عنهم في لسان الفقهاء بالامناء و تجهيز الجنود و الشرطة للجهاد و لحفظ الثغور، و منع التعدّيات و حماية الدين و إقامة الحدود علىٰ المعاصي و التعزيرات

ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، ص: 80

علىٰ المخالفات، و إعاشتهم و تقدير أرزاقهم و تعيين رواتبهم، و نصب القضاة لرفع الخصومات و حمل الناس علىٰ مصالحهم الدينية و الدنيوية، كمنع الغشّ و التدليس في المعايش و المكاييل و الموازين، و كمنع المضايقات في الطرقات، و منع أهل الوسائط من تحميلها أكثر من قابليتها، و الحكم علىٰ المباني المتداعية بهدمها، أو إزالة ما يتوقّع منها الضرر علىٰ السابلة، و ضرب السكّة و إقامة الصلاة و إجبار الممتنع عن أداء الحقوق الخالقية و المخلوقية، و قيامه مقامه في الأداء، و إجبار المحتكر و الراهن علىٰ الأداء و البيع، و إجبار الشريك علىٰ القسمة، و إجبار الممتنع عن حضور مجلس الترافع و الخصومة، و تسيير الحجّ، و تعيين يوم طلوع الأهلّة، و الجهاد في سبيل اللّٰه علىٰ إشكال فيه و إصلاح الجسور و فتح الطرق و حفر التُّرَع و صنع المستشفيات، و سياسة الرعيّة، و إعطاء الراية و العلم و اللواء، و تقسيم الغنيمة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الدفاع عن الحدود و النفوس و الأعراض و الأموال.

و بالجملة: حلّ جميع المشاكل الفردية و الاجتماعية، و تشكيل الوزارات في مختلف شؤون المملكة. و اللّٰه العالم.

الطائفة الثالثة: عدول المؤمنين، فإنّ المعروف عنهم أنّ النوبة تصل إليهم في التصدّي لأموال الصغار و اليتامى عند فقد الفقيه، و بعد مفروغيّة أنّ الشرع لا يرضىٰ بذلك؛ أي بترك حفظ أموالهم و بترك

ولاية الفقيه (للسيد

مصطفى الخميني)، ص: 81

التصدّي لأُمورهم، فإنّه عند ذلك يكون العدل المؤمن هو القدر المتيقّن من بينهم، فيجوز له التصرّف فيها، و بذلك نخرج عن إطلاق المنع من أموال الغير إلّا بإذنه.

________________________________________

خمينى، شهيد، سيد مصطفى موسوى، ولاية الفقيه (للسيد مصطفى الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.